ما العمل؟
ما إن يقف الكاتب أمام أحداث محددة، يراها شائكة، متشعبة، وخارج دائرة توقعاته، فإن أول سؤال يطرحه على نفسه، هو “ما العمل؟” السؤال الذي قد يطرحه التشكيلي، وهو يصطلي بألم الموقف ذاته، بل هو السؤال الذي قد يطرحه الصحافي، أو المسرحي، أو الموسيقي، أو الشاعر، أو حتى كل امرئ مكتوٍ بالألهبة المستعرة، عندما توسع إطار محرقتها، بجنون، وهمجية، كي تحرق الأخضر واليابس، تجعلهما مجرد رماد، لا أكثر، وهو حال يكاد يكون – طبق الأصل – في جغرافيات عديدة، يمكن أن يشار إليها – وعلى طريقة مقدمي النشرات الجوية في الفضائيات – عبر ألوان، وأشكال خاصة، مبللة بلون الدم، أو تفحم أجساد الآدميين، في تلك العناوين المفتوحة على الدمار، والخراب، والمحو، والإبادة.
لن يكون السؤال – وهو يذكر بمن صاغه لأول مرة في كراسه الخاص من رجالات الفكر – ملكاً للرجل نفسه، وإن كان ينسب إليه – تحديداً – وسم مؤلفه به، في أحد المواقف الذي كانت فيه الرؤيا ضبابية، وهو المتبصر للحظة، وما بعدها، كما ما قبلها – وإن وفق طريقته الاستقرائية الخاصة – بل هو سؤال يحمل رائحة عجز الإنسان، في مواجهة أولى التحديات في بيئته، منذ بلورة وعيه، وعلى نحو فطري محض، في مواجهة مفردات البيئة، عندما وجد لأول مرة، في مواجهتها: حيث طبيعة ضارية لا ترحم، من خلال لوازمها، حراً وقراً، بل وعواصف ورياح هوجاء، وأنواء بحرية مجنونة، ناهيك بالوحوش الكاسرة التي كانت تتبع رائحته، لمحو أثره، والاستفراد بالمكان، كي تتسيده، دون عقل آدمي – ه و ضمير الكون ومعياره ومسوغ جدواه – وإن كانت ستنصرف بعد القضاء عليه، لمواصلة الفتك حتى بمن تكمن ضمن تصانيف المعجم الحيواني، تستوي – هنا – الطيور، والدواب، والزواحف، على حد سواء.
إذا كانت – هذه – هي اللوحة الأولى التي فتح الكائن البشري الأول كلتا عينيه عليها، وتفاعل مع أدواتها، مدفوعاً بغريزة الحفاظ على الحياة – ولكن حياته هو قبل كل شيء – فإننا أمام أسّ أول لثقافة أولى، يمكن أن ننظِّر لها، ألا وهي: الفتك والقتل، والدماء، والدمار، والتهام القوي للضعيف، ضمن متوالية – الطباع – التي يؤسس لها منذ إجهاز قابيل على هابيل، لتتولد الحاجة إلى وضع حد لقتل الآدمي للآدمي، وهوما يصنف الثقافة البشرية، لتكون نتاج معادلتين، حداها: الطبع، والتطبع، الأصل والمستحدث، وغير ذلك من المتضادات التي تدور ضمن هذا الإطار، إذ هناك ما هو غريزي، مبطن، لا يمكن التخلص منه إلا عبر ثقافة مشتغل عليها بعبقرية حب آدمية، عالية، ترجح حالة الوعي بعظمة قدر الإنسان، ودوره، ومهماته، ووظيفته، إذ إن حالة الاستقرار لن تتم البتة في ظل وجود الخلل بين: الوعي المقدس، و اللاوعي الوحشي الذي تناوله مفكرون كثيرون، وجاء كتاب التوحش لتيريز دلباش معبراً عن بعض ما ينتظرنا ونحن لما نزل بعد لم نكمل إلا أقل من خطوة ونصف – فقط – في فضاء القرن الحادي والعشرين الذي يعدّ المجال التطبيقي لهذا الكتاب.
إن مناظر الطائرات التي أنزلت حمم الديناميت، والقناصة الذين استهدفت رصاصاتهم القلب من صدر من وقع أو يقع في دائرة إحداثيات مناظير الموت على أسلحتهم الأوتوماتيكية، ومستنقعات الدم التي سرعان ما تتيبس على الجثث المنتنة، كي تولد أخرى غيرها، وهكذا دوليك، ناهيك بالمدن التي امحت وتمحى عن بكرة أحياء بعض أحيائها، بل ومعالم أحيائها، تلك، عبر اختلاط رائحة تفسخ الجثث، بعطن النفوس القاتلة، عوامل تدعو لأن نطرح السؤال، التقليدي، المتجدد، بأعلى وتائره “ما العمل؟” “ما العمل؟” وسط هذا – العمى – المستفحل، ونحن نتوق إلى عالم، نظيف، بلا أحقاد، بلا ضغائن، عالم أعمدته من حب عميم، للكائن، والكون، في آن..!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”