fbpx

مأساة أبو أحمد السّوريّ

1 681

في عام 2012 كنت أعمل مديراً لمشروع شاليهات في محافظة طرطوس، وكان لدينا حارس يدعى (أبو أحمد)، يعشق البحر، ويتزوّد منه بما يعينه على معيشة أسرته، وذات يوم وصلت إلى مكان عملي فوجدت أبا أحمد مرتدياً بزّة عسكرية، ومنتعلاً بوطاً عسكريّاً، وعلى كتفه بارودة روسيّة، فقلت له: “خير يا أبو أحمد، ما هذا الذي ترتديه؟”؛ فقال: والله يا أستاذ تطوعت في الدّفاع الوطني، ماذا أستطيع أن أفعل؟ عندي سبعة أفواه تحتاج إلى من يطعمها، وليس لدي سوى راتب ضئيل مقداره تسعة آلاف ليرة أتقاضاه من الجمعية التي تدير هذا المشروع؛ فكيف سأعيل أسرتي بمبلغ ضئيل كهذا، أجبني بالله عليك؟!

– قلت له: لكنك تقامر بروحك يا (أبو أحمد)، وإذا متّ (لا قدر الله) من سيعيل أطفالك؟

– قال: من هذه الناحية لا تخف، لقد اتفقتُ معهم على أن تكون خدمتي داخل القرية فقط.

– قلت: خير إن شاء الله يا (أبو أحمد)، معك حق، حماك الله، وسكتُّ مرغماً.

لم يكن لدي جواب على تساؤلاته، ولا حل لمشكلته، وكنتُ على قناعة تامّة بأنهم يضحكون منه حين وعدوه بأن تكون خدمته في القرية، التي هي خارج دائرة الخطر الآن، كما كنت مقتنعاً بأنه سيغادر القرية مضطرّاً ليقاتل نيابة عنهم في أماكن بعيدة عن قريته، وربما قتل هناك، وترك عائلته بلا معيل، وربما وعدوه بأن مستقبل أسرته مؤمّن في حال حدوث مكروه له، وهم كاذبون، وربما…. وربما…..

تلخص حالة (أبو أحمد) حال الكثيرين ممن وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الارتزاق في لعبة الموت السورية عقب اندلاع الثورة ضد النظام الديكتاتوريّ، بعد أن أوصل هذا النّظام المجتمع السّوريّ إلى حالة من الإفقار ليست مسبوقة، وبات الناس معها مستعدين لفعل أي شيء كي يحصلوا على لقمة العيش، ألم يقل الشاعر ممدوح عدوان ذات يوم: “تأكل الحرّة من ثديها إذا جاع أطفالها”، وإذا كانت المرأة الحرّة مضطرة إلى أن تأكل من ثدييها كما قال عدوان، فحري بالرجل أن يفعل أي شيء.

على الضفة الأخرى، كان النظام قد قام بفصل كلّ الموظفين الذين تظاهروا ضده من عملهم؛ وجعل كثيراً من العائلات بدون معيل، وفاقم من حدة العنف بشكل غير مسبوق ضدّ الجماهير المنتفضة في الشهور الأولى من المظاهرات التي اجتاحت المدن السورية، وفي هذه الفترة تكاثرت أعداد المنادين بالدعوة إلى (عسكرة الانتفاضة) بغية الإطاحة بالنظام، كما ازداد عدد مموّليهم، وقدّم هؤلاء عروضاً مغرية وأموالاً طائلة لمن يتطوّع في القتال إلى جانب المنتفِضين، وهكذا وجد آلاف الشباب أمثال (أبو أحمد) أنفسهم مدفوعين إلى حمل السلاح في مواجهة النظام، تحت رايات سوداء لم يختاروها ولم يستشاروا في رفعها.

 هكذا اضطّر أبو أحمد السوري، وأبو أحمد السوري الآخر، الذي لا يعرفه إلى الوقوف في خندقين متقابلين في المقتلة السورية التي لا تزال ضارية حتى الآن، ولا يعرف أحد كيف ستنتهي، ومتى!!

وفي الواقع لم يشارك في الحرب إلا الفقراء أو المغرر بهم، الذين لاحول ولا قوة لديهم إلا أن يكونوا وقوداً لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، أما كبار المسؤولين والأثرياء القدامى، والجدد، فقد استطاعوا تهريب أبناءهم إلى الخارج، بل إن كثيراً من العائلات باعت أرزاقها وممتلكاتها لكي تهرِّب أبناءها من حرب ضروس أكلت الأخضر واليابس، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن ما دعي بـ (البيئة الموالية) لم تكن قد شاركت في هذه الحرب إلا من موقع الضحية، أو المغرَّر بها، وهكذا أمام النقص الحاد في عداد الجيش بفعل عمليات الانشقاق من جهة، وهروب من هم في سن الخدمة من جهة ثانية اضطر النظام إلى الاستعانة بالقوى الحليفة والموالية له كقوات المليشيات الإيرانية وقوات حزب الله، كما لجأ إلى إنشاء ما سمّـي بـ ( قوات الدفاع الوطني) بتمويل من (جمعية البستان) العائدة لرامي مخلوف، ولم يكتف مخلوف بتمويل المقاتلين، بل قام أيضاً بتمويل رجال الدين، الذين أخذوا في التحريض على القتال ضد أبناء بلدهم، وفي حث الشباب للتطوع والدفاع عن (الوطن) ضد(الإرهاب)، مستغلين صالات التعزية بالشهداء لمزيد من التحريض وتوريط شباب آخرين.

وفي الخندق الآخر كان الدعاة السلفيون أمثال العرعور والمحيسني وغيرهم يمارسون دورهم في التحريض الطائفي، وفي شحن السوري ضد السوري، وفي تحميل الطائفة العلوية مسؤولية الجرائم التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري، مع أن أبناء هذه الطائفة كانوا ضحية من ضحايا النظام، إذ ظلوا مهمشين ومن دون عمل، وخطط لأن تبقى مناطقهم فقيرة وغير مخدّمة كي يضطروا إلى الانخراط في صفوف الجيش والمخابرات، ويصب عملهم في خدمة النظام دون أن يكونوا واعين بذلك.

هكذا وجد الشعب السوري نفسه بكل أطيافه مضطراً إلى الاشتراك في حرب دموية كانت كفيلة بالإجهاز ليس على ثورته ومطالبه العادلة بالحرية والكرامة فحسب، بل على وحدته ونسيجه الاجتماعي ومن ثم على وجوده كشعب.

لقد فاقمت الحرب المندلعة بين الأطراف المتصارعة على الساحة السورية من هول الكارثة، وتركت ظلالها السوداء على الاقتصاد السوري المنهك أساساً، حيث توقفت آلاف المصانع عن العمل بعد أن كانت تشغِّل عشرات آلاف العمال، كما توقف الإنتاج الزراعي في معظم السهول الخصبة الممتدة من حوران جنوباً حتى إدلب وحلب شمالاً، ما أدى إلى تدمير موارد رزق الشريحة المتوسطة من الفقراء والعمال بعد أن سُدَّتْ أمامهم سبُلُ العيش الكريمة، وفي الآن ذاته ازدهر اقتصاد الحرب، وتدفقت الرساميل بغزارة إلى طرفي الصراع، مع إمعان النظام في الحل الأمني العسكري، وإغلاق كل الأبواب أمام أي مبادرة أو تسوية سلمية، وقد حدث كل ذلك أمام مرأى من المجتمع الدولي ومسمعه، حيث وقف هذا المجتمع متفرجاً ومتظاهراً بالعجز أمام أكبر( قصة موت معلن) في التاريخ الحديث، مكتفياً بإبداء الأسف والقلق على ما يحدث.

لقد غابت أو غيبت هذه الحقيقة الدامغة للصراع عن وسائل الإعلام بكل أطيافها، بعد أن تحولت جميعها إلى أبواق للتحريض الطائفي والمذهبي، وفتح الصفحات القديمة المغيَّبة، أو التاريخ المزور، فإعلام النظام وداعموه كانوا قد أطلقوا صفة الإرهاب على كل من انتفض ضد الاستبداد حتى ولو بالكلمة أو بالمظاهرة، وحتى لوكان هذا المنتفض يسارياً أو شيوعيّاً، فيما بذل الإعلام المقابل جهده لكي يوجد مطابقة تعسفية بين النظام والطائفة العلوية، وتحميل هذه الطائفة مسؤولية كل الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري، والنتيجة من كل هذا هي تعميق الانقسام العمودي في المجتمع، وجعل الهوية الوطنية السورية ورقة في مهب رياح التعصب والحقد المنفلت من أي عقال.

في عام 2018 عدت بزيارة إلى سوريا من مغتربي في دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم تجولت في شوارع المدينة، كانت صور متعددة لأبي أحمد السوري ببزته العسكرية معلقة على أسوار الحدائق والساحات العامة مرفقة بكلمة الشهيد؛ لدرجة أنه لم يعد ثمة مكان لتعليق المزيد، دخلت الحديقة العامة وسط المدينة، وإذ بي أرى أبا أحمد يمشي على عكازين، وآخر على عكاز واحد، وثالثاً مفقوء العين، ورابعاً مقطوع الذراع، و..و…و، رأيت الحزن المستوطن في عيونهم، لازالوا ببزاتهم العسكرية، كأن الزمن توقف بالنسبة لهم.

لم يكن هذا المشهد مقتصراً على مدينتي التي كانت بعيدة نسبياً عن جبهات القتال، ذلك أن المدن والبلدات السورية الأخرى لم يكن لديها الوقت لتنشر صور شهدائها؛ إذ كان الناس مشغولين بلملمة أشلاء ضحاياهم من تحت الركام، أو بتجميع أشيائهم الصغيرة، والنزوح إلى مخيمات اللجوء والتشرد، تاركين بيوتهم المدمرة وراءهم، ما يدفعني إلى التساؤل والصراخ بصوتٍ عالٍ: كفاك لعباً ومتاجرة بالدم السوري وحياة السوريين أيها العالم!!! 

آن لأبي أحمد السوري… أن يكف عن القتال… آن له أن يستريح من هذا النزيف

آن له أن يضمد جراحه، ويعيش كباقي عبادالله…. في العالم كله؟؟ 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

1 تعليق
  1. أبونوار says

    مقال متميز جدير بأن يتحول إلى نص مرئي.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني