fbpx

كورونا… لعنة الظلم على الاقتصاد العالمي

0 304

لا تزال جائحة كورونا تجتاح مختلف الأنحاء والأرجاء مخلفةً وراءها الخراب في مختلف أصقاع المعمورة، ولايزال القادة السياسيون حائرين في مجابهة الفايروس المدمّر، فاستمرار إغلاق الاقتصاد مع خسائر ناطحت الـ 30 ترليون دولار يعني مزيداً من الألم، ورفع الإغلاق يعني كوارث صحية لا يمكن التنبؤ بعواقبها، وبين هذا وذاك، يسير العالم على جسر الموت إلى طريقٍ مجهول، لا تُعرف نهايته.

لا شك أنّ خريطة الاقتصاد العالمي، ستتغير بعد الاضطراب الذي لحق معظم القطاعات الاقتصادية حول العالم، ومع استمرار إغلاق الاقتصاد، وعدم التوصّل إلى لقاحٍ شافٍ يضع حداً لفاشية هذا الفايروس، تزداد الصورة قتامةً وبؤساً. وبعيداً عن صعود إمبراطوريات، واضمحلال أخرى، يتوقف عمق هذه التغيرات على التطورات المستقبلية لسياسات الدول في التعامل مع هذه الأزمة.

معروف أنّ أزمات الاقتصاد تنجم عن عدة عوامل:

الأزمة المالية: وهي الأشد ضرراً وتأثيراً على الاقتصاد، حيث تنشأ عن ممارسات مالية خاطئة من قبل المؤسسات والأفراد، ويمتد تأثيرها لسنوات طويلة، وتتطلب معالجتها إحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاد، وسن قوانين جديدة لتغيير سلوك المستثمرين.

السياسات الاقتصادية: جراء رفع معدلات الفائدة إلى مستويات عالية، لتشديد السياسة النقدية، مما يترتب عليه ارتفاع تكلفة رأس المال، وصعوبة حصول المستثمرين والشركات على الأموال اللازمة للاستثمار.

الركود الكلاسيكي: ويتمثل بما يسمى الدورة الاقتصادية التي تتكون من أربع فترات، ركودٌ يعقبه انتعاشٌ، ثم ازدهار فكساد. وإنّ صدمات أو انهيار العرض والطلب، نتيجة الأزمات والحروب والاضطرابات السياسية، يمكن أن تجرَّ الاقتصاد إلى الركود، وذلك بحسب شدّة الأزمة وطول أمدها.

الأزمة التي تسببت بها جائحة كورونا لا تزال في جانب الطلب أو ما يسمّى “انهيار الطلب”، حيث أنّ الآثار السلبية جاءت من خلال توقف الناس عن الإنفاق في معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية، كتوقف رحلات الطيران والسياحة، وارتياد المقاهي ودور السينما، إلى التوقف عن شراء السيارت والأثاث وما إلى ذلك. والاستمرار في حالة الإغلاق بدأ ينقل الأزمة إلى جانب العرض، وأعني هنا “عرض النقود”. فمع استمرار انحدار الاستهلاك، وتزايد معدلات ادخار الأسر، تخوّفاً من المجهول، بدأ ينشأ عن ذلك شحٌّ في السيولة. حيث تحاول الأسر الاحتفاظ بالسيولة النقدية جاهزة تحت الطلب، وترفض الاتجاه نحو الاستثمار في الأسهم أو السندات، أو حتى الاحتفاظ بها في البنوك خوفاً من انهيار القطاع البنكي. ما يجعل من المستحيل على الشركات تمويل نشاطاتها، أو حتى التوسع بها، وهذا يؤدي إلى سلسلة من الإفلاسات التي ستغرق معها الدائنين الذين أقرضوا الشركات سابقاً، وقد ترتب على ذلك، موجات تسريح كبيرة للعاملين والموظفين، الأمر الذي أصبح كالنيران المستعرة التي تتعاظم ألسنتها كلما زادت كمية الأكسجين حولها.

في سبيل ذلك، تدخلت البنوك المركزية ضمن خطط الطوارئ، وبدأت في تخفيض معدلات الفائدة إلى حدود الصفر، ومنها ما صار سالباً، كما شرعت في ضخ مئات المليارات من الدولارات، لتسهيل حصول الشركات على الأموال، ودفعت البنوك إلى تخفيف شروط الإقراض لإنقاذ الاقتصادات من الانهيار. لكن لا شك أنّ تلك السياسات تحمل في طياتها مشاكل جمّة.

أولى هذه المشاكل هو الجدل المتصاعد حول دور البنوك المركزية في الحياة الاقتصادية، وعلى تفويض نفسها بأموال دافعي الضرائب كما يحلو لها، لأنّ نهاية حكاية الضخِّ تلك، هي زيادة الضرائب.

وثانيها يتمثل بذهاب أموال الإنقاذ إلى خزائن الشركات الكبرى، التي باتت تسمى “أكبر من تفشل”، وإلى جيوب مدرائها التنفيذيين الذين باتت رواتبهم ومكافآتهم تشتري تذاكر سفر إلى الفضاء.

وثالثها أنّ هذه الأموال ربما تنقذ شركات ميتة أصلاً، حتى قبل اجتياح الفيروس، وبالتالي تذهب أدراج الرياح.

كيف سيتغير شكل الاقتصاد

وفقاً لمعهد هارفرد للدراسات، فإنّ تأثير الجائحة سيترك علامةً فارقة في كل من شقي الاقتصاد الجزئي والكلي على السواء، كما سيكون لها ندوبٌ بارزة في عالم السياسة:

الاقتصاد الجزئي: يمكن للأزمات أن تحفّز اعتماد تقنيات جديدة في عالم الأعمال، وغالباً ما يرجع الفضل إلى فيروس سارس عام 2003، في اعتماد ممارسات التسوّق عن طريق الإنترنت في الصين، وأدّى ذلك إلى صعود موقع “علي بابا” بسرعة كبيرة. ومع إغلاق المدراس والجامعات وأماكن العمل، ظهرت تقنيات التدريس والاجتماعات عن بعد. حتى أنّ الدول باتت تعتمد على الهواتف المحمولة لجمع معلومات عن المصابين، ما يشير إلى أنّ الإنفاق على تكنولوجيا المعلومات سيكون كبيراً.

الاقتصاد الكلي: مع إصابة بعض الدول بالعجز عن تأمين أموال الإنقاذ، لابدّ لمشروعات الأعمال أن تتجه إلى القفز وراء الحدود، ما يعجّل بالتقدّم نحو ما يسمى “القيمة العالمية اللامركزية”، وهو ما سيزيد من الاتجاه نحو مزيد من العولمة، على الرغم من كل السياسات الحمائية التي تحاول الدول اتباعها.

عالم السياسة: لا يمكن استبعاد التداعيات السياسية على المستوى المحلي والعالمي أيضاً، حيث يختبر الفيروس مدى سلامة النظام الصحي في كل دولة، ومدى استعداد الأنظمة السياسية للتعامل مع مثل هذه الأزمات، وحقيقة هشاشتها وقوتها في أوقات الكوارث.

وأمام كل ذلك، فهناك العديد من التساؤلات والحقائق التي بات على العالم أن يدركها، فتدخّل الدولة المستمر في إعادة إحياء الاقتصاد، أصبح يطرح استفساراً هاماً حول النظام الرأسمالي بحد ذاته، والقائم على الأسواق الحرة التي تعيد التوازن من تلقاء نفسها، وأضحى رجال الاقتصاد يدرسون بجدية نُظم الدول الاسكندنافية القائمة على “اقتصاد السوق الاشتراكي”، كما صارت الصين اليوم تروّج لـ “التجربة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”.

وأمست سياسات الطوارئ تهدد الشركات الصغيرة والمتوسطة العاجزة عن الوصول إلى الأموال، ولم يعد من مجال أمامها سوى الاندماج أو الأُفول، مما سيضيف شركات ضخمة إلى تلك المتعددة الجنسيات التي تسيطر على مفاصل الأسواق، وسيؤدي ذلك إلى زيادة تأثير تلك الشركات على سياسات الدول، واختفاء الكثير من الشركات المتوسطة التي تعتبر صمام الأمان للأسواق.

وعلى الناحية الأخرى، سيستهلك استمرار الإغلاق مدخرات الأسر حول العالم، ويؤول وضعها إلى العجز عن الاقتراض والإنفاق على حدٍّ سواء، وحتى استحالة تسديد الأقساط المستحقة على ممتلكاتها من عقارات وسيارات وما إلى ذلك، وسيزداد الأغنياء غنىً، والفقراء فقراً، لتغدو المجتمعات صوراً مشوّهةً عن التفاوت الطبقي، الذي يقود إلى صرعات واضطرابات تزيد من البؤس الذي يلف أرجاء الكرة الأرضية.

إعادة تموضع القوى الاقتصادية

آلت الكثير من التكهنات إلى إمكانية صعود قوىً وانهيار أخرى، وإلى احتمال نشوب حروب عالمية في سبيل إعادة رسم حدود الاقتصاد العالمي، وإنّ من الصعب حقيقةً التنبؤ بذلك. وبعجالةٍ، فقد تحوّل الاقتصاد العالمي إلى جسم واحد، وباتت الدول معتمدةً على بعضها بعضاً، وهذا ما أثبتته الأزمة المالية العالمية في صيف 2008. فانهيار الولايات المتحدة وعملتها (الدولار)، سيعني انهيار الصين إلى حدٍ كبيرٍ، لما تملكه الصين من احتياطيات دولارية، وسندات خزانة، وحصصٍ وقروضٍ في ذمّة الشركات الأمريكية. وكذلك الاتحاد الأوروبي، فبنوكه منكشفةٌ بشكل كبير على الاقتصاد الأمريكي، ومعلومٌ ما لدى دول العالم من احتياطيات دولارية وسندات خزانة. والأمر سيان بالنسبة لانهيار الصين أو الاتحاد الأوروبي، فالكل في ذات المركب، وعلى الجميع إخراج الماء الذي طفق إلى داخله.

ربما يكون هناك صعود لاقتصادات جديدة، ولكن ليس إلى الحدّ الذي يجعل منها قوى اقتصادية كبيرة تنافس الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وكل ذلك يبقى من التكهنات لعدم وضوح الرؤية بشكل تامٍّ. في حين أنّ الواضح، هو أن الفايروس سيصرع معظم الدول مع المحافظة، إلى حدِّ ما، على ذات الترتيب.

حقيقةً. إن تأثير الجائحة مأسويٌ وأليمٌ جداً، وقد أصاب الحياة في مقتلٍ. لقد كان الفايروس لعنةً حلّت على البشرية، عقاباً لتجاوز الحدود الإلهية وقوانين الطبيعة. عقاباً حمل معه صرخات ثكالى سربرينتشا وأطفال أفغانستان، وعَبَرَ صحراء الصومال والعراق وليبيا ونيجيريا. صعد جبال اليمن وميانمار، مشى على أسقف بيوت الصفيح في أمريكا اللاتينية والفلبين، طاف بالقدس ومخيمات الموت السورية، وحمل معه كل معاناة وأوجاع البؤساء المظلومين، ليكون كورونا… لعنة الظلم.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني