fbpx

قيامة “كورونا”: إعلام خارج التغطية

0 334

أمام شلّ الحياة، على نحو كونيٍّ، على حين غرة، منذ حوالي أسبوعين، فحسب، بسبب انتشار جائحة “كورونا”، خارج مهادها الصيني، واقتحامها السور الأوروبي الهش، بعد اقتحامها سور الصين العظيم، واندحارها، حيث بات المواطن الكوني متوجساً، جدّ حذر مما حوله، بل من نفسه، وثمة إحساس يراود كل شخص بأن الآخر مصاب بآفة “كورونا”، ولابدَّ من الحذر منه. إنه حذر عام، عمودي وأفقي، حذر المسؤول والرعية في آن، حذر أسري، حيث البنات والأبناء حذرون من آبائهم، والآباء حذرون من بناتهم وأبنائهم، والأشقاء حذرون من بعضهم بعضاً. مدير المؤسسة حذر من مرؤوسيه ومرؤوسوه حذرون منه ومن بعضهم بعضاً. والجار حذر من جاره. الحكومات حذرة من مواطنيها والمواطنون حذرون من قادتهم، لا أحد خارج دائرة التوجس، بل الحذر والخوف الذي تحول تدريجياً إلى رعب أممي، كوني، غير مسبوق البتة بهذه الدرجة.

وإذا كنا واثقين، من أن العالم، وعبر التاريخ، قد تعرَّض لجوائح متعددة، ولعلَّ من بينها ما كان له الأثر الكبير في نشر حالة الهلع والفزع، ضمن جغرافية قارة ما، أو أكثر، إلا أن طبيعة العصور السابقة ما كانت لتسمح بأن تتحول تلك الجوائح إلى كونية، نتيجة عوامل تتعلق بواقع الكثافة وبطء التواصل، وبدائية أو انعدام الإعلام، إذ إنه لربما فتكت جائحة ما بمكان ما، وألغت كائنات ومكونات بشرية، لتخلو منها أماكن تجمعاتها، بسبب عدم وجود العلاج اللازم، ولعلَّ الحفريات الأثرية قد كشفت عما يمكن اعتباره إبادة جماعية بحق أهالي مكان ما، في هذا العصر أو ذاك، وما جعل الاهتمام بأمراض الطاعون وغيره من الأوبئة والفيروسات الفتاكة في العصر الحديث شأناً عاماً، هو انتشار وسائل الإعلام، وانعدام الحدود بين الناس.

من هنا، نجد أن جائحة “كورونا” التي استسلمت بلدان كبرى أمامها، مع صدمتها الأولى استطاعت أن تفرض حالة الخوف منها، بأكثر مما فعلته حالات نشر الكوليرا، أو الإيدز، أو السارس، وسلسلة الأنفلونزات الطيرية – الخنزيرية إلخ، خلال العقود الماضية، وحتى ما قبلها، ولعله يضاف إلى ذلك طبيعة هذا الفيروس الفتاك، وسرعة انتشاره، وعدم ظهور علاماته إلا بعد أسبوعين، كما قيل عنه، بل إن مشاهد سقوط بعض الأشخاص في بلدان كالصين وإيران، وغيرهما – بينما هم يتحدثون أو يسيرون في الشارع – عبر وسائل الإعلام المرئي، وشبكات التواصل الاجتماعي فاقمت حالة الفزع بل الهلع بين الناس، وجعلت أمر العناية بهذا الوباء المستفحل كونياً، كما أن التصريحات التي أدلى بها زعماء وقادة بلدان كبرى دعت نسبة عالية من أولئك الذين كانوا يقابلون ما ينشر عن هذا الفيروس، مع نشر الأنباء الأولى لانتشاره بسخرية كبرى ينقلبون على أنفسهم، ويعيدون الحسابات، ليعمَ الحذر تدريجياً.

وفي مظنتي أن الإعلام المحلي في كل بلد – لا سيما في أوربا – له دوره الكبير في اتخاذ الموقف من هذا الفيروس، إذ إنه في بلد قوي، متماسك، كما ألمانيا، كانت الحياة جد طبيعية، بالرغم من انتشار أنباء عن وجود حالات محدودة من المصابين في بعض المدن، إلا أن التطمينات الصادرة على نحو متواتر صارت تجعل المواطن الألماني غير مكترث بما يشاع عن المرض، وهذا نتيجة تعلقه بإعلام بلده، بل نتيجة مصداقية إعلامه من خلال وجهة نظره. ثمة مثال يحضرني، وأردِّده لكل من يحدثني عن هذا الفيروس – وهو حديث الساعة دولياً – أنه عندما سربت بعض وسائل الإعلام أنباء عن خطورة المرض القادم، وضرورة أن يتخذ المواطن، والمقيم، في ألمانيا إجراءاتهما، وأن يؤمنا احتياطييهما من المواد التموينية، ومستلزمات النظافة والتعقيم، فإنني لاحظت أن من توجهوا إلى المخازن والمولات الكبيرة ليقتنوا ما يكفيهم من حاجات ولوازم، لأشهر، ولربما أكثر كانوا من عداد غير الألمان، وكنت شخصياً أنظر إليهم بسخرية، إلا أنه مع قرع بعض رؤوس الحكومة الألمانية، وتحديداً المستشارة أنجيلا ميركل، والجهات المشرفة على الصحة، وعبر وسائل الإعلام، ما جعل المواطن الألماني – نفسه – يهرع باتجاه هذه المولات والمخازن التموينية والطبية والوقائية ليقتني ما يلزمه، ما أدى إلى إفراغ هذه المحال، كما تم تصوير بعضها عبر مقاطع الفيديو، بالرغم من أن الوقت مبكر لذلك، ولما تزل المعامل تنتج اللوازم، ولم تصل الأمور إلى درجة ترك العمال معاملهم – لا سمح الله – بل لدى الدولة احتياطيها الإنتاجي والعمالي والإداري!

في تصوري، أن التعامل مع هذه الجائحة، ولدواع اقتصادية وسياسية، لم يتم على النحو اللازم، إذ إنه كان لابدَّ من المكاشفة من اللحظات الأولى لاكتشاف حالات التقاط لفيروس “كورونا”، والعمل على نشر الثقافة الصحية الوقائية، بالإضافة إلى عدم إقلاق كبار السن، والمرضى، بتمرير الإشاعات بأنهم المستهدفون، لا سيما عندما يقول رئيس حكومة بلد كبير، ما مفاده: استعدوا لتقبل فكرة فقد كثيرين من أحبتكم ومقربيكم، أو التحدث عن رقم مليوني ممن سيصابون بهذا المرض في بلد ما، من قبل مصدر حكومي رفيع، وهلم جرا.

إن التعامل الرسمي الأوربي مع هذه الجائحة خارج موطنها الأول – الصين – لم يكن في المستوى اللازم، إذ إنه كان على مصدري التصريحات المسؤولة في هذا البلد الأوربي أو ذاك أن يعملوا على جبهات عديدة، منها: التفكير بتأمين سبل العلاج الأولي، ومن بينها طريقة استقبال المرضى، من مراكز، وأدوية أولى. اتخاذ الموقف من حركة الناس، حيث إن استمرار التجمعات في الأماكن العامة، لدواع اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو فنية، أو حتى تربوية، خلق الطمأنينة – الكاذبة – لدى الجميع بأن هذا الفيروس لا يتقن إلا اللغة الصينية، وأن اللغات الأوربية الأخرى: الإنكليزية – الألمانية – الفرنسية – الإسبانية، ناهيك عن اللغات الآسيوية والإفريقية عصية عليها، وفي منأى عن الفتك بها.

وبالرغم من أن الإعلام استطاع أن يؤدي دوره – وإن متأخراً – بالشكل الصحيح، بعد أن سمح لوسائل التواصل الاجتماعي أن تخلق حالة الفزع والفوضى، إلا أنه مطالب بالمزيد من – الشفافية – مهما كانت نتائجها، بل عليه توجيه النقد لسلطات بلده، أياً كانت، لحثّها على أخذ الأمر بمنتهى الحزم والجدية، ومحاربة الأوهام الهائلة التي تنشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت متنفساً للعالم كله، بعد أن تم فرض الحجر في أماكن ما، قليلة، بل ثمة حجر صحي مترقب على مستوى أعمّ، ناهيك عن أمر آخر، وهو أن نسبة عالية من الناس باتت تطبق الحظر الصحي على مستوى بيوتها، وأن الإجراءات الوقائية جد تطبق في أصغر خلية اجتماعية، أي في المنزل، وهذا جد مهم وضروري، لأن الإجراءات الدقيقة، العامة لم تتم في تلك البلدان التي لم تطبق الحجر الصحي العام، بالشكل المطلوب.

إن وسائل إعلام العالم المتفرج على ما جرى في الصين، ومن ثم إيران، كان ينقل الحدث الكوروني وكأنه ينقل مباراة كرة قدم، لا أكثر. ينقل ما يسرب إليه، عبر قنوات خاصة أو عامة، ناسياً دوره المحلي، في أداء دوره التوعوي، والإشارة إلى الحالات المحلية، وكيفية تسربها، لاسيما إن ذلك رافق عملية تشخيص سبب هذه الجائحة: أهي بيولوجية أم مجرّد فيروس عابر، إذ إن حالة الرعب، وبث اليأس، واللجوء إلى فكرة الخلاص الفردي، وقطع الوشائج بين الناس – والتي سنتوقف عندها في وقفة خاصة – عوامل جد مقلقة، وخطيرة، بتنا نواجهها.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني