قراءة في رواية “محطّة قطار براماتا”
- الكاتب: عبد اللطيف الحرز
- الناشر: دار الفارابي
- ط1، نسخة إلكترونية، 2007م
عبد اللطيف الحرز، روائي عراقي متميز، هذا أول عمل نقرأه له.
محطة قطار براماتا، رواية تعتمد أسلوب السرد الذاتي على لسان الراوي، الذي هو واحد من الشخصيات الأساسية في الحدث الروائي، يستعيد الماضي بطريقة قريبة من الخطف خلفاً، حيث يتواجد الراوي – صاحبنا – في مدينة سيدني في أستراليا، يستعيد حياته كاملة في العراق، ليصل أخيراً إلى أستراليا جالساً ينتظر قطاراً قد يأتي أو لا يأتي، هذه الاستعادة العشوائية لتاريخ صاحبنا الشخصي متداخلة مع ما حدث في العراق عبر عقود، حيث تنتهي الرواية زمنياً بعد احتلال العراق من قبل الأمريكان عام 2003م وذلك لسنوات عدة.
صاحبنا جالس في محطة قطار براماتا في أستراليا التي كانت آخر محطاته وهو هارب من العراق وبلاد المنافي الأخرى، صاحبنا من الجنوب العراقي، حيث يلتقي دجلة والفرات في مدينة البصرة هذا العناق بين مياه الفرات ودجلة وأرض الأهوار ويشكلان مستنقعاً مائياً كبيراً، يعيش به كثير من الكائنات الحية والنباتات والبشر الذين يجدون فيه قوت يومهم، كما أن الأهوار هي مركز طبيعي صعب العبور والوصول إليه لغير أهله، لذلك كان دوماً مركزاً لتجمع الخارجين عن القانون ومن يعمل ضد الدولة في العراق لعصور طويلة.
أغلب الثورات على نظام صدام حسين في العراق كان يتمركز ثوارها في فترة ما في الأهوار، ولا تنتهي تلك الثورات إلا عندما يتم إنهاؤها هناك، صاحبنا واحد من الثوار الذين حملوا السلاح مع آخرين ضد نظام صدام حسين، وكان من الذين تجمعوا في الأهوار في آخر محاولة للثورة على صدام في تسعينيات القرن الماضي، بعد مغامرة احتلال الكويت الفاشلة، التي قام بها صدام حسينن صاحبنا وكثير من صحبه، يخوضون معاركهم الأخيرة ضد قوات صدام حسين التي تلاحقهم في الأهوار، وكان صدام حسين قد اتخذ قراراً بتجفيف الأهوار، تحت دعوى الاستفادة من أراضيها التي تغطي أغلبها المستنقعات المائية والقصب، أما الهدف الخفي الحقيقي فهو الوصول إلى الثوار والقضاء عليهم، ومنع إمكانية تكرار التمترس فيها بعد ذلك.
كانت معارك صاحبنا وبعض من رفاقه الآخرين هي الأخيرة، والتي ستنتهي بمقتل الكثير منهم وهروب الباقين إلى غير رجعة إلى سورية أو إيران ومنها إلى بلاد الدنيا كلها.
يسترجع صاحبنا رفاقه الذين كانوا صحبته في الأهوار، لم يقف صاحبنا على أسباب ثورتهم على صدام، يبدو أن ظلم صدام بديهية لا تحتاج إلى شرح وتفسير، كما أنه لا يوضح الخلفية الفكرية لثوار الأهوار، هل هم من الإسلاميين الشيعة (حزب الدعوة) أم هم من الشيوعيين العراقيين، أم… الخ. كل ذلك لا يتضح في الرواية، هم ثوار على مظلومية صدام وكفى، صدام الذي زجّ بالعراق في حروب لا نهاية لها، وجعل الشعب العراقي ضحية موت بالحروب أو المعتقلات والسجون، والأسوأ بعد ذلك الموت من الحصار الذي حصل بعد التسعينيات لأكثر من عقد، وجعل العراق وشعبه في حياة من الفقر والجوع والعوز ونقص الخدمات الصحية إن لم يكن انعدامها. كل ذلك جعل صدام عدواً للشعب كله. لذلك كانت خاتمة الصراع بين صدام والغرب هو احتلال العراق وسقوط بغداد بيد الأمريكان عام 2033م.
صاحبنا يتحدث عن الأغوار والثوار الذين صمدوا حتى استشهدوا، ذاكرته حيّة بهم، وهم الضوء الوحيد في عالمه، غيابهم وانعدام الماء في الأهوار عنى عند صاحبنا فقدان المعنى في الحياة وتحولها إلى تفاهة أو انتهازية مؤلمة أو ضياع مقنع، يتحدث صاحبنا عن من لم يمت في الأهوار وغادر إلى بلاد المنافي، بعضهم ذهب إلى إيران، وكان مصيره إما الالتحاق بالحوزات الدينية، أو المعسكرات التي أعدها الإيرانيون لاستقبال العراقيين لتدريبهم وتأهيلهم للعودة إلى العراق ومحاربة صدام، وبعضهم يئس من الحالة كلها، صدام والعراق والثورة، قرروا أن يغادروا إيران إلى بلاد تأويهم وتعطيهم حق الحياة وإشباع الحد الأدنى من الحاجات الإنسانية، وتلبية غرائز موءودة منذ عقود.
انتقل صاحبنا ومعه آخرون إلى إيران ومن بعدها إلى أستراليا ليعيشوا حياة جديدة متجاوزين بها كل شيء. يتابع صاحبنا حياة بعض هؤلاء الذين انتقلوا من أن يكونوا ثواراً في الأهوار، ليصبحوا في إيران أدوات بيد المرجعيات الدينية والسلطة الإيرانية ضد الدولة العراقية، انتقل هؤلاء من كونهم ثوار ليصبحوا سماسرة انتهازيين ضد الشعب العراقي، لقد عادوا على سطح الدبابة الأمريكية، وباسم مرجعياتهم الدينية التي توافقت مع الإيرانيين والأمريكان وعادوا ليكونوا حكام العراق الجديد.
لا جديد في حياة العراقيين، الحاكم الجديد ينتقم من الشعب العراقي، خلقوا ورعوا الفتنة الطائفية، قتلوا الشعب على الهوية، تحولوا لوحوش تنهش بلحم الشعب العراقي.
عاد بعض الثوار السابقين ومعهم شاحنات المخدرات، عادوا لينهبوا المال العراقي في البنوك، عادوا ليشكلوا مجموعات قتل وتشبيح على ذات الشعب الذي من المفترض أنهم ثاروا في يوم ما من أجله.
يفضح صاحبنا هؤلاء المرتزقة الجدد، المتحدين مع الأمريكان والمراجع الحزبية والدينية المرتبطة بإيران، التي حكمت العراق ونهبت ودمرت ما تبقى من بنيته. (مع ملاحظة أن زمن الرواية ينتهي عام 2006م)، يتحدث صاحبنا عن الأخوين الذين عملوا بالنهب والمخدرات، أحدهم قتل في شوارع بغداد، من قبل عصابة أخرى، عندما أصبحت بغداد نهباً للضباع تتناهشه، والآخر الذي وصل إلى سيدني في أستراليا، وتحول ليتاجر في ذات الممنوعات من مخدرات وغيرها، مضافاً إليها الدعارة، وليصبح من الأثرياء الذين سيعودون إلى العراق بصفتهم من أبطال تحرير العراق، ويتحولون إلى رموز سياسية، ويتاجرون بالشعب العراقي في جميع المحافل الدولية، وفي الداخل العراقي أيضاً.
تنتهي الرواية وصاحبنا ما زال ينتظر قطاراً لا يأتي في محطة براماتا في سيدني الأسترالية، مسترجعاً الأبطال الحقيقين للثوار العراقيين الذين استشهدوا، والانتهازيين الذين بقوا ليحولوا العراق إلى جثة تلتهمها أمريكا وهم معها بعدما اقتنعوا بالقليل، وأصبحوا حكام بلد مستعمر ومنهوب.
في تحليل الرواية نقول:
– إننا أمام رواية مكتوبة بعمق مشاعري، تدخل الوجدان، تجعل يقينها يقين القارئ، تنتصر لإنسانية الإنسان حيث لم يعد من ينتصر لها.
– تظهر الرواية أن وطن الإنسان وأن كان ظالماً له اجتماعياً أو سياسياً هو عنوان توازنه النفسي، وأنه مهما عاش من صعاب وآلام يبقى الوطن ذاته الذي يحمله كحقيبة على ظهره، أو وصمة على جبينه، وهي عمق نفسي وروحي لا يزول، الإنسان منا بلا وطن هو إنسان كالريشة في مهب الروح. تصبح كل البلاد منافي، وكل المدن محطات وهم بديل عن وطن مفقود.
نعم يظهر ذلك علينا نحن السوريين أيضاً، الذين شردنا النظام المجرم في كل أركان الأرض.
تتحدث الرواية عن مرحلة من تاريخ العراق، مهم أن تنور، وكيف تم حرف بوصلة الثوار على صدام، بحيث تحولوا لأدوات للمستعمر الأمريكي بشكل مباشر وظاهر، وللإيراني بشكل غير مباشر خفي.
سنتابع نحن في زمننا الحاضر بعد أربع عشرة سنة على الحدث الروائي وما حدث في العراق، لنجد أن ما كتب صحيح ودقيق، فكل من جاء مع المستعمر الأمريكي شارك في نهب العراق وجعله مطيّة لأمريكا، وأرضاً خصبة للحرب الأهلية والطائفية.
لكن الشعب العراقي ثار مجدداً على كل هذه الطبقة السياسية، من يمثل الأمريكان أو المرجعيات الدينية المرتبطة بإيران، أو أدوات إيران المباشرة، تحركوا لينتصروا لإنسانية الإنسان العراقي، متجاوزين الطائفية والمناطقية والهويات الحزبية والعقائدية، منتصرين لحقوقهم الإنسانية، في الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والديمقراطية الحقة والحياة الأفضل.
نأمل من شباب العراق أن يصنع مستقبله المشرق.