fbpx

قراءة في رواية “بابا سارتر”

0 211
  • تأليف: علي بدر
  • إصدار: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
  • ط 3 ورقية 2009م

علي بدر: روائي عراقي متميز، قرأنا بعض رواياته وكتبنا عنها.

بابا سارتر: رواية تعود بنا إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي في بغداد، راصدة حياة جيل تفتح على الفلسفات الغربية: الوجودية والماركسية – منها التروتسكية نسبة إلى تروتسكي – والبنيوية… إلخ، سواء من اطلع عليها عبر الكتب والترجمات، أو من خلال الاحتكاك بها مباشرة في أوربا نفسها، وانعكاسها على هؤلاء فكرياً ونفسياً وسلوكياً، والرواية إطلالة على واقع حياة هذا الجيل بالعلاقة مع هذه الأفكار، وانغراسها في حياة العراق بكل تفاصيلها، متلونة مع نوع حياتهم فقراً وغنىً، وخلفيات دينية؛ مسلمين ومسيحيين ويهود، خلفيات طائفية وإثنية أيضاً.

تبدأ الرواية من خلال دعوة المؤلف من قبل بعض معاصري تلك المرحلة؛ حنا يوسف وصديقته نونو بهار، طالبين منه كتابة سيرة فيلسوف الوجودية في العراق عبد الرحمن سارتر، نسبة إلى فيلسوف الوجودية جان بول سارتر، والمكنى بفيلسوف الصدرية؛ منسوباً إلى الحي الذي يسكنه في بغداد، ويتفق معهم الكاتب ويقدمون له الكثير من المراجع والكتب والمذكرات ليستعين بها على إنجاز مهمته، وسيتعرف أيضاً على المحامي صادق زاده، الذي سيقدم له أيضاً الكثير من المراجع والوثائق لتساعده في عمله الروائي.

يبدأ الكاتب بتدوين سيرة فيلسوف الصدرية بالحديث عن عبد الرحمن بدءاً من بيئته العائلية، فهو ابن أسرة عراقية ثرية، جده تاجر عراقي كبير من أيام العثمانيين، جدته تركية، أحوالهم الاقتصادية تعثرت في العهد الملكي، ومع ذلك استمروا من وجوه المجتمع وطبقته التجارية الثرية، ترعرع عبد الرحمن وسط العائلة، وكان أول جروحه الطفلية النفسية؛ رؤيته متلصصاً على العلاقة الجنسية بين والده ووالدته، وإحساسه بعار العلاقة المحرمة؟!.، ولم يتجاوز مأزقه هذا رغم محاولة والدته إيضاح ذلك له، بأن ذلك طبيعي وأنها الحياة؛ فكيف جاء هو إلى الدنيا اذاً؟!.

استعاض عن حميمية العلاقة مع أهله بحميمية العلاقة مع السائس؛ ذلك الشخص الذي يقوم بكل الأعمال الملحقة بمنزلهم بما فيها سياسة خيل العربة الخاصة بالعائلة، السائس ذلك الإنسان الذي جاء من قاع المجتمع والتحق بخدمة العائلة، وكان قد غادر مدينة أخرى بعد أن فضحت علاقته الجسدية المحرمة مع سيدته روجينا، التي سرعان ما سيحضرها لمنزل عائلة عبد الرحمن تقوم على شؤون المنزل.

السائس وروجينا سيملؤون عالم عبد الرحمن النفسي والحياتي، سيكبر بين يديهم، ستتجه غرائزه الجنسية تجاه روجينا، وستكون تجربته الجنسية الأولى معها، سيتعرف عبد الرحمن من شبكة علاقاته مع أنداده على الأفكار القادمة من الغرب، ويعشق شخصية سارتر ويتقمصه، لم يطلع على فكره بعمق كاف، واكتفى بحفظ كثير من تعريفاته، وقف مذهولاً أمام الغثيان كشعور وجودي، وعاش حياته كلها متشبعاً لهذا الغثيان الذي لم يعرف كنهه بالضبط، المهم أنه عاش حياة إباحية اجتماعياً، لشاب ثري وفي بغداد وبين أنداده من الشباب، في الحانات ودور الدعارة والمقاهي، امتلأ بشعور أنه فيلسوف وجودي فريد للعراق، وأخذ يفلسف كل تهتكه ودعارته وضياعه بصفته هذا الفيلسوف الذي يعيش تجربته الوجودية الفريدة.

في بغداد التقى مع إسماعيل العتوب؛ الشاب الصاعد من قاع المجتمع، الفقير، المعدم، الذي يعيش ليومه، باحثاً عن لقمة، وسيكشف كل منهما حاجته للآخر، حاجة عبد الرحمن الفيلسوف لتابع له، يخدمه ويؤمن به وبرسالته الفلسفية، وإسماعيل الذي وجد أخيراً الحاضن والمأوى واللقمة والعيش الرغيد المنفتح على كل موبقات بغداد.

عبد الرحمن سيمر في أكثر من اختبار في حياته، والأهم كان اختبار الحب، ففي بغداد تعرف على نادية الخدوري ابنة العائلة المسيحية الثرية التي تعمل في مكتبة، وجد بها عبد الرحمن الجمال والثقافة والقدرة على الحوار والتفاعل، ورغم أنه كان زبوناً دائماً عند الراقصة دلال مصابني ومراقصها، فإنه أحب أن يعيش مع نادية حباً فلسفياً خاصاً، ولكنه عندما حاول أن يقبلها ويداعبها جسدياً صدته بحدة، وعرف بعد ذلك برسالة منها أنها كانت ضحية اعتداء جنسي من واحد ممن كانوا يعملون عند عائلتها، وكان مسؤولاً عن حمايتها والاهتمام بشؤونها، وهي لم تعد بكراً، وهذا أدى إلى هروب عبد الحمن منها ومن علاقته معها إلى فرنسا ليتم دراسته العليا في الفلسفة، أما هي فيتزوجها حبيبها الأول إدمون الذي سيفجع بما هي عليه، ويقرر أن ينتقم من عبد الرحمن ولا يصدق أنها ضحية لغيره.

عبد الرحمن سيذهب إلى باريس، ليكون قريباً من سارتر أستاذه وملهمه، وسرعان ما تأخذه أجواء باريس وحاناتها، فيدخل أجواء متابعات أقرب للهلوسة حول حب أراده مع نادلة في مقهى، وكيف خطط أن يقتنصها من حبيبها الجزائري، عبر افتعال معركة فكرية فلسفية، حول الوجودية، كيف يفشل بذلك، ويعود الجزائري إلى الجزائر بعد استشهاد أخيه في الثورة ضد الفرنسيين المحتلين للجزائر، وكفره بالغرب، بأفكاره وادعاءاته عن الحرية، وأن الغرب ومنه فرنسا بسلوكه الاستعماري قد أظهر كذب ادعاءاته الفلسفية والفكرية كلها، وسرعان ما تلحق به تلك النادلة، ويفجع عبد الرحمن لخسارته لها، وسرعان ما يعوض عنها بحب جديد، حيث سيتعرف على جرمين الفتاة الفرنسية التي تعمل خادمة منازل حسب الطلب، وعندما طلب منها عبد الرحمن أن تكون حبيبته من ثم زوجته الفرنسية، رضيت بكل سرور. عاد عبد الرحمن إلى بغداد فاشلاً دراسياً ودون أن يحصل على الدكتوراه التي ذهب لأجلها، لكنه عاد فيلسوفاً وجودياً كبيراً، ومعه فتاة فرنسية كزوجة قدمها على أنها ابنة خالة سارتر، وعاد لسابق حياته ومجونه وأجوائه السابقة، وسرعان ما تحمل زوجته وتنجب له طفل وطفلة، وتنشغل عنه وعن أوهامه بأولادها، أما هو فلم يعد يجد فيها هذه الجاذبية الوجودية السابقة، واستعاض عنها بدلال مصابني وبناتها، لكن تابعه إسماعيل كان قد فكر بجرمين الفرنسية زوجة صديقه الفيلسوف، وأصبح يأتي إليها في غيابه ويعيش علاقة جنسية سرية معها. لكن العلاقة سرعان ما انكشفت، زوجته كانت تخونه مع صديقه إسماعيل، لم يستطع تحمل الفضيحة والخيانة وقتل نفسه بطلقة بمسدس كان عنده.

وعندما اطلع حنا يوسف على نص الرواية حاول تعديلها وحرف نصها، واحتال على الكاتب وأخذ نسختها له، لكن الكاتب كان قد خبأ نسخة أخرى ساوم فيها نونو بهار والمحامي صادق زاده، وطالبوه مجدداأ تعديل معلومات عن إسماعيل الحدوب ضمن الرواية، ليكتشف بعدها أن حنا يوسف يهدد صادق زاده الذي هو إسماعيل نفسه، وأن الكاتب سيخسر جهده وسيهرب من محاولة إسماعيل قتله بإطلاق النار عليه.

وبعد فترة ستعود إليه نونو بهار لتأخذه إلى إسماعيل نفسه المتقمص شخصية ميشيل فوكو الفيلسوف البنيوي الفرنسي هذه المرة، ليكتب رواية عنه هو بصفته فيلسوف البنيوية العراقي، رداً على روايته عن عبد الرحمن فيلسوف الوجودية.

يتركهم الكاتب وقد تداعى إلى ذهنه أنه سيأتيه من يقول له اكتب رواية عن متقمص لشخصية جمال الدين الأفغاني.

هنا تنتهي الرواية، في قراءتها نقول: نحن أمام نص متميز عن مرحلة تاريخية في العراق من أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، تتحدث بعمق وشفافية ومسحة من السخرية، عن جيل أراد تقمص الغرب بطريقة مرضية استعراضية، دون الخوض عميقاً في هذه الأفكار أو العقائد، وأن هذا التقمص المرضي لم يكن أكثر من لباس مختلف لذات البشر والواقع بكل سلبياته وعيوبه، بل كان لهذا التقمص انعكاسه السلبي على أشخاصه، في الوقت الذي كانوا فيه مجرد أشخاص موغلين بالخطيئة والفوضى واللامعنى والضياع، كانوا يعتقدون أنهم أصحاب رسالات أنبياء للعصر، وكانوا ضحايا التخلف، ويعيدون إنتاجه من خلال ادعاءاتهم الفلسفية والفكرية الكبيرة، التي لم تغير من واقع الأمر شيئاً، فما زال الناس ضحايا ذاتياتهم وأهوائهم الجسدية، وخلفياتهم المجتمعية من دينية وطائفية وإثنية، وهم ضحايا التفاوت الاجتماعي، الفقر والغنى، والتخلف الذي يرعاه الاستبداد ومازلنا حتى الآن نراوح في مكاننا.

ضحايا التخلف والاستبداد والانغلاق الذهني، والاستثمار من قبل كل الأعداء لصناعة أي شيء بنا وبمجتمعاتنا، ونحن دائماً ندفع الثمن.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني