في استثمار حيوية الشارع السوري
أشرت في مقالة الأسبوع المنصرم إلى أهمية البناء على حيوية الشارع المعارض السوري التي تبدت في أعقاب قرار الائتلاف الانتخابي، عبر تحفيز واستنهاض الطاقات الكامنة بما يخدم مصلحة سورية والسوريين. حيث ساهم نجاح النظام وقوى الثورة المضادة بتحييد الفعل الشعبي الثوري السوري، في إخراج الشعب السوري من معادلة الحل السوري ومن رسم مستقبل سورية، لصالح تنامي الدور والمصالح الخارجية في صوغها دون أدنى اكتراث لمصالح السوريين وتطلعاتهم.
فقد أثبتت الأيام أن إنجاز الحل والخلاص السوري وفق تطلعات الوطنيين السوريين مهمة منوطة بالمجتمع السوري وحده، بعيداً عن أوهام التعلق بالحل الخارجي أياً كان مصدره، كما تتحمل الكتلة الاجتماعية داخل سورية مجمل أعباء النضال التحريري ومسار التغير المنشود، فالصراع والنضال الأساسي هو مع قوى الاحتلال والاستغلال والاستبداد والإقصاء، المسيطرة على الأرض السورية، لذلك فهو صراع مباشر معها، وهو ما يفرض أعباء إضافية على الكتلة الاجتماعية الباقية في سورية، بحكم كبر حجم الكتلة المهجرة قسراً بفعل إجرام القوى المسيطرة وعلى رأسها الأسدية. طبعاً لا يعني ذلك التقليل من أهمية ودور الكتل الاجتماعية خارج سورية، بقدر ما يحدد مركز النضال ويرسم نسبياً شكله وطبيعته المتوقعة.
لكن وبعد إلقاء نظرة سريعة على ظروف الكتلة الاجتماعية داخل سورية، نلحظ تعدد المعوقات التي تعترض طريقها النضالي من ناحية، والمشاكل التي تعصف بجهود إنضاج العامل الذاتي لديها من ناحية ثانية؛ مع التقدير لجميع الجهود الجادة المبذولة في هذا المجال. وذلك بحكم تعدد قوى السيطرة والاحتلال وتفتت وتشتت المجتمع السوري جغرافياً ونسبياً سياسياً، وبظل سيطرة القوى الأمنية والقمعية التي تضرب بقوة وبطش أي محاولة احتجاجية ذات طابع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، كي تمنع إنضاجها وتطورها ونموها في المدى المنظور، كما حصل تجاه احتجاجات مدينة السويداء ودير الزور وإدلب ودرعا. في حين نجد أن ظروف وأوضاع جزء مهم من السوريين خارج سورية، ولاسيما خارج مخيمات اللجوء المؤقتة على الحدود السورية/اللبنانية؛ الأردنية؛ التركية، أفضل من حيث المخاطر الأمنية وإمكانية الحركة والقدرة على التعبير بالشأن السوري تحديداً، وغيرها من العوامل المساعدة في مسار تهيئة وتحسين العامل الذاتي السوري العام.
لذا وانطلاقاً من أهمية تطوير البنى السياسية السورية التعبيرية والحزبية والتمثيلية عموماً والمعارضة خصوصاً، واستناداً إلى ظروف السوريين خارج سورية، وانطلاقاً من قدرة بعض الفئات والمجموعات الشعبية داخل سورية على المساهمة نسبياً ببعض الأنماط التشاركية غير المباشرة، وبناء على نجاح الشارع السوري في إلزام الائتلاف السوري على سحب قراره الانتخابي، يصبح من الضروري اليوم العمل على رفض مبدأ المحاصصة السياسية كلياً، سواء كانت بين النظام والمعارضة المنظمة؛ الائتلاف مثلاً، أو داخل الأطر المعارضة ذاتها. ومن ثم ممارسة الضغط الشعبي من أجل استبدال مبدأ المحاصصة داخل الأجسام المعارضة بآليات ديمقراطية مباشرة، تخضع لآراء الشارع السوري وحده بمنتهى الحرية والاستقلال، المتحرر من أي ضغوط أمنية أو اقتصادية أو سياسية أو إعلامية، واستناداً إلى معرفة ودراية وافية أو على الأقل مقبولة بالتباينات والفروقات بين مختلف التوجهات والآراء.
فعلى الرغم من أولوية مواجهة جميع قوى الاحتلال عموماً، إلا أن عملية دمقرطة المؤسسات المعارضة وفتح المجال السياسي العام أمام السوريين ضرورة ملحة أيضاً لمستقبل سورية ولتهيئة ظروف النضال التحرري السوري الذاتية. لذا لا يصح الاكتفاء بثني الائتلاف عن خطوته الأخيرة، أو حتى الاكتفاء بفرض بعض الشروط الثورية العامة على جدول المباحثات الجارية بين النظام ووفد المعارضة، بل يجب العمل من أجل تمكين القاعدة الشعبية السورية الحاضنة للثورة من صناعة منظومة سياسية متكاملة تعبر عنها وعن تطلعاتها الثورية والوطنية، تستمد شرعيتها من الشارع عبر الانتخاب المباشر وتخضع لحكم الشارع القادر على نزع الثقة منها أيضاً حين يتطلب الأمر ذلك. مع الحذر من خطر الانزلاق نحو اعتبار المطلوب الآن مجرد دمقرطة مؤسسات المعارضة، وتفعيل الآليات الانتخابية ضمنها، فالانتخابات مجرد خطوة أخيرة لا أكثر، يجب أن يسبقها خلق فضاء سياسي يتسع لجميع الآراء السياسية المتباينة، كي تتصارع ثقافياً وسياسياً على كسب ثقة الشارع والتعبير عن تطلعاته المستقبلية وعلى مشاركته مساره النضالي المطلبي والوطني، فقد حان وقت تجاوز منطق الشخصنة السياسية والاجتماعية، لصالح منطق منهجي قائم على البرنامج والتوجه والآليات الواضحة. ثم يحين دور دمقرطة مؤسسات المعارضة عندما تستوفي أهم شروطها، مثل:
أولاً: نزع صفة التفاوض عن أي لقاء سياسي يجمع بين ممثلي النظام وأي من الأجسام المعارضة، فهي مجرد لقاءات تشاورية لا أكثر، ومن الأفضل وقفها كلياً حتى يفرز الشارع الثوري قواه وممثليه. فقد أثبتت التجربة سلبيتها عموماً وعجزها عن حل أي من مشاكل السوريين.
ثانياً: فتح المجال أمام جميع السوريين الراغبين في المشاركة الجماعية أو الفردية دون أي قيود زمنية وإثنية وعرقية ودينية. وبغض النظر عن الخلاف مع بعض القوى والأطراف الفاعلة هنا أو هناك كمسد مثلاً، حيث لا يجوز استبعاد أكراد سوريا الراغبين في المشاركة، بمن فيهم المقيمين في مناطق سيطرة قسد، بل على العكس تشكل مشاركتهم ضرورة سورية وطنية. كما لا يصح المبالغة في التخوف من اختراق جمهور النظام وقسد والقوى المتطرفة لهذه العملية، لاعتبارات عديدة أهمها أن الكتلة الاجتماعية الثورية متفوقة عليهم جميعا عددياً وأخلاقياً، ثم أن زيادة أعداد السوريين المنخرطين بهذه المنظومة تمنحنا ورقة سياسية مهمة تعبر عن عدم شرعية النظام وأشباهه من قوى الاستبداد والإجرام، وتشكل ضربة سياسية قاصمة لأية انتخابات يعتزم النظام إجراءها مستقبلاً.
ثالثاً: تكليف قضاة وخبراء قانونيين مشهود لهم بالنزاهة السياسية والمالية والأخلاقية، من المستقلين سياسياً عن الأحزاب السورية ومن المنتظمين ضمن أطر ومجموعات قانونية تخصصية كالمركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية، لوضع نظم ومحددات واضحة تحكم عملية البناء وتحدد شروط المشاركة في العملية الانتخابية، وشروط الترشح الفردي والجماعي؛ قوى سياسية واجتماعية فاعلية؛ والآليات الانتخابية المتبعة للتغلب على واقع التشتت الجغرافي السوري، وأخيراً أن تحدد الجهات والأشخاص المسؤولون عن مجمل العملية والتزامها بالمعايير الوطنية المحددة حتى إتمام الانتخابات.
رابعاً: تحديد المعايير الوطنية الرئيسية التي لا يجوز تجاوزها أو الإساءة لها، كالأرض؛ الشعب؛ المساواة في الحقوق والمساواة بين جميع السوريين، مع الأخذ بعين الاعتبار لحق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية واستقلالية.
خامساً: أن تتم العملية الانتخابية داخل الوسط المعارض بعد مضي عام – يتم تحديد المدة بدقة منذ البداية – على تأمين فضاء سياسي واسع أمام جميع التوجهات الوطنية السياسية دون أي تمييز بحجم الظهور والزخم المالي والإعلامي، كي يتاح لمجمل السوريين من تحديد الفروقات بين طرح وآخر وتبيان مدى مصداقيتهم.
سادساً: إلزام المؤسسات الإعلامية المعارضة بتغطية جميع التوجهات السياسية الوطنية والثورية بشكل متوازن من حيث الزمن والشكل والمضمون والمساحة، على اعتبارها مؤسسات إعلامية سورية غير حزبية في هذه المرحلة، مع الإقرار بحق الأحزاب بإعلام خاص ومستقل في المرحلة المستقبلية.
سابعاً: تحييد نفوذ رأس المال الخاص والخارجي، الذي قد يشكل نوعاً من الضغوط المباشرة على القطاعات الشعبية الأكثر فقراً وعوزاً، داخل وخارج سورية، لاسيما في المخيمات وإدلب ومناطق قسد.
ثامناً: تحديد أطر وإجراءات بسيطة تخول السوريين من ممارسة دورهم الرقابي، بما فيها حقهم في عزل أي شخص/أشخاص منتخب/ين قبل انتهاء مدة الولاية الانتخابية.
إذ لم يتسنى للسوريين في ظل حكم الأسد ممارسة أي شكل من أشكال العمل السياسي أو الاجتماعي الجماعي، الأمر الذي انعكس ضعفاً واضحاً في قدرتهم على تأطير الرؤى والتوجهات السياسية، وفي رسم الاستراتيجيات النضالية. لذا قد يصح العمل على خلق فضاء سياسي واجتماعي مؤقت، يفسح المجال لخوض غمار هذه التجربة السياسية والاجتماعية الجماعية الضرورية لتحقيق أهداف وتطلعات السوريين الوطنيين.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”