غزة.. يوم المظلوم
بعد نصف قرن بالتمام والكمال وفي نفس عيد الغفران انفجر المشهد في فلسطين بصورة صادمة لم يتوقعها أحد على الإطلاق حيث فوجئ العالم عشية السادس من تشرين الأول بدخول المئات من الفلسطينيين في الجو والبر والبحر إلى مستوطنات إسرائيل في غلاف غزة، في مشهد صادم لا يزال عصياً على التفسير، ولكنه يحظى بإعجاب أحرار العالم، سواء منهم أولئك الذين يؤمنون بالكفاح المسلح والبندقية، أو حتى أولئك الذين يؤمنون بالحوار والدبلوماسية فقد رأوا في عملية هائلة كهذه فرصة لتغيير مسار الدبلوماسية وفرض شروط جديدة، على الرغم من الاختلاف في رؤية الحل.
وفي الواقع فلست راغباً أن أكتب في التحليل السياسي والعسكري، فهذا ما تنهض به أقلام متفرغة، ولكنني معني بقراءة المشهد من الجانب الإنساني، حيث الإنسان هو الجانب الأكثر حضوراً وقهراً في هذه المأساة.
اليوم ومع صباح عيد الغفران نهض الفلسطيني الغاضب الذي ظل مكبلاً بقيود سجانيه منذ خمسين عاماً بلا توقف، يتلقى من المجتمع الدولي والعربي والمحلي دروس العين والمخرز، ودروس الحكمة الباردة، واليد اللي ما تقدر تقطعها بوسها وادعي عليها بالكسر، وإنا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، وغير ذلك من ثقافة الاستخذاء، والتي ستنتهي لا محالة بصورة من ثقافة القطيع، حيث نطبق ما يملى علينا، ونشتغل بعد ذلك بالحسبلة والحوقلة والجعفلة والطبقلة!!.
ولكن الجانب الأشد قهراً هو أن المحتل نفسه سيتحول إلى نوع آخر في هذا الديالكتيك الأحمق، فهو لم يعد يرى أدنى ضرورة لأي تنازل يقدمه، ومنذ مقتل رابين فإن الحكومات الإسرائيلية ذاهبة في خط حلزوني متصاعد لصالح اليمين، حتى يبدو نتنياهو رجل سلام واهن، لا يليق بإسرائيل في قيامها الجبار!!
هكذا على الأقل تقدم الأحزاب المتشددة الصورة التي تقترحها لإسرائيل، وتطالب بالمزيد ولا تستحي أبداً من طرح المسألة على منطق التراتيب التوراتية التي تقسم الناس إلى نوعين، شعب الله المختار والغوييم الأبله المخلوق لخدمة إسرائيل.
كان الطرح الأول هو التقسيم 1945م، ولكن الاعتدال الخافت لم يستطع فعل شيء، وانطلق قطار التشدد، ففرض رؤيته هنا وهناك، وقامت حربا العرب الخائبتان في 67 و73 وكررت المقولة ذاتها، وبدأ التشدد اليميني في إسرائيل يصدر نهتمه المتوحشة في فرض إرادة الظلم على الشعب المظلوم، وقتل التشدد اليهودي رابين وقتل التشدد الإسلامي السادات، وانطلقت المنطقة من جديد في دورات عنف لا تنتهي، وفشل العرب في تحقيق اي تغيير حقيقي على الأرض ليستثمروه في السياسة.
لا شك أن التحولات الكبرى التي ستفرضها العملية المذهلة التي اقتحمت البر والبحر والجو، وأدت إلى مقتل نحو ألف إسرائيلي وهو رقم لم تعتد إسرائيل عليه ولا حتى في الحروب الكبرى إضافة إلى مائة أسير باتوا أوراقاً تفاوضية مرعبة بيد الفلسطينيين، يستطيعون بها أن يفرضوا قدراً من الشروط التي كانت تبدو من قبل حلماً.
والسؤال الآن: هل أدرك أولئك الذين كانوا يمضون بقطار القهر على الشعب الفلسطيني أنهم يسبحون عكس التاريخ، وأن صمت المغلوب لا يعني انتصار الغالب، وأن للباطل جولة وأن للحق جولات.
هل أدرك أولئك الذين فرضوا بناء المستوطنات، ونجحوا في حشد تأييد دولي أبله لبناء المستوطنات والكفر بأوسلو، وكذلك لنقل السفارة إلى القدس، والاستهزاء بمشاعر هذا الشعب واقتحام قدسه الشريف في الأقصى هل أدركوا أنهم يسيرون في عكس حركة التاريخ؟.
هل أدركوا أن فرض الصمت صار مستحيلاً وأن الإنسان يتذوق حريته اليوم كما لم يعرفها من قبل، وأن الشعوب كالسيل الهادر مهما جفت مساراته فإنه لا بد أن يسيل ذات يوم ويجدد الطوفان.
لا أريد أن أرش على الموت السكر، فالحروب لمن يقرؤها سهلة وممتعة، وهي أمتع للذين يتابعونها على شاشات التلفزة مع المراسلين المحترفين والمذيعات الدلوعات، ولكن الحرب ليست كذلك، وكوارثها ومصائبها وقهرها أكبر من أن يعتبره المرء نزهة أو تدريباً.
كإنسان لا أستطيع أن أفرح لقتل إنسان، ولن أهلل لدم يراق، حتى ولو كان دم الإسرائيلي، ولن أهلل لقيد يلقى على مدني سواء كان ابن الأرض أو كان مستوطناً فيها، فهناك حلول حقيقية يربح فيها الجميع ولا يخسر فيها أحد، وذات يوم لن يصدق الإنسان أنه كان يقتل أخاه، لأي سبب من أرض أو وطن أو دين، ولكنها سنة الحياة، والضغط يولد الانفجار، والظلم لن يدوم، ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.