fbpx

عن أمسيتي في أووهان

0 1٬145

لا أعرف، إلى الآن، كيف حدث ذلك: أن أذهب إلى مطار ديسلدورف الدولي، في صباح ذلك اليوم، وأتوجه إلى مكتب شركة الطيران التي ستقلع إلى “أووهان” في الصين، وأنا تحت وطأة سعادة غامرة، حيث ينتظرني برنامج بهيج، نظمته لي صديقتي الصينية ” آيمي” التي تعرفت عليها في دمشق، قبل خمسة وثلاثين عاماً، عندما كانت تدرس اللغة العربية. أتذكر، بدأت علاقتنا في إحدى الأمسيات الشعرية في المركز الثقافي في دمشق، كانت ثمة فتاة جدّ جميلة، مختلفة عمن حولها من فتيات كن يتابعن الأمسية. كان الجو شتاء، ووضعت – “طاقيتها” و”معطفها” الصوفيين، فوق مجموعة كتب على ركبتيها – كانت مسمّرة في مكانها محدقة بعينيها الصغيرتين العميقتين، تجاهي، وعندما أنتهي من قراءة مقطع شعري يروق لها، فقد كانت تشعل شرارة التصفيق في القاعة.

قصائد إنسانية. قصائد حب. بعض القصائد الرمزية عن معاناتنا ككرد، كنت أمرِّرها، من ضمن مختاراتي التي قرأتها في الأمسية، ثم دار حوار مطول مع الجمهور، رددت خلاله على أسئلتهم. كنت أتمنى في داخلي أن تنهض تلك الفتاة المختلفة وتسألني، كنت أجيب على أسئلة الجمهور، وأنا أنتظر رأيها، إلا أن ذلك لم يطل كثيراً، إذ سرعان ما استأذنت من مقدم الأمسية ومدير الحوار، وكان رئيس المركز الثقافي نفسه، لتقدم سؤالاً لايزال يرن وقعه في مخيلتي:

أنا صينية، أصول جدي السابع من إيغور، اسمي آيمي برايلي، أحبُّ اللغة العربية. تعلمت القرآن في بيتي، على يدي جدي من جهة أمي، استمعت في هذه القاعة خلال سنتين من وجودي في دمشق، إلى الكثير من القصائد، والقصص، وحتى الخواطر، مالفت نظري أن هناك تركيباً خاصاً للجملة لدى الشاعر الضيف، بل إن لديه شيئاً آخر يقوله، يختلف عما سمعته من قبل.

لم يكن بيني وآيمي، أية معرفة سابقة قبل هذا التاريخ، ولم تكن قد سمعت باسمي من قبل، كل ما بيننا من تاريخ، هو هذه الدقائق القليلة السريعة التي تمضي، وكأنها ألف سنة. يحدث فيها الكثير، قبل أن أجيب علق مقدم الأمسية قائلاً:

لن أتدخل في الإجابة، إلا أنني لاحظت بدوري ذلك، ويسعدني أنا الآخر، أن أستمع إلى إجابة شاعرنا الضيف الذي يحيي الأمسية، هنا، لأول مرة، وأقرأ له لأول مرة، وأعجبني نص صغير قرأته له في مجلة “هنا دمشق”، قبل سنتين، فرحت أسأل عنه المحرر، ودلوني عليه، أخيراً، لأحصل على رقم هاتف منزله، وأوجه إليه الدعوة.

حقيقة لقد أطرى عليّ مدير المركز الثقافي، قائلاً كل ما لديه، إلا أنني رحت أفكر بطرح الإجابة، محاولاً ألا أقع في فخ الغرور، وألا أتهرب من الإجابة الصحيحة، فهذه الفتاة الإيغورية الصينية، لا يمكن لها أن تضمر لي سوءاً. كان كل ذلك واضحاً من خلال تفاعلها معي، وأنا أقرأ قصائدي، إلى الدرجة التي نسيت خلالها جمهور الأمسية كله ورحت أفكر بها، ساعياً إلى الحفاظ على تصاعدية إيقاع الأمسية، من دون أن يتهاوى، وهوما يعرفه عادة، أي شاعر، يعتمد على حدسه، محكماً عقله في قراءة الجمهور.

المكالمة التي وردتني من إحدى بناتي:

بابا، أصحيح أنك تغامر بالسفر إلى الصين؟

أجل، بابا، أنا الآن في المطار، كنت قد وعدت أسرة المهرجان الشعري ولا مناص من ذلك

أتوسل إليك أن تعود حالاً إلى البيت..!

شعرت بألم كبير في مثانتي، كما يحدث لي كل مرة، ورحت أفكر بإنهاء المكالمة، على أن أكملها بعد أن أعود من إفراغ ما في مثانتي في الحمام. رحت أبحث عن حمامات المطار، وأنا أحمل حقيبتي الثقيلة، بلا جدوى.

لا تقلقي، لن يحصل إلا الخير. إنهم يقولون: لا يصاب بهذا الوباء إلا كبار الصين.

أنت جد، أنسيت؟ أنت في سن الخطر.

هزتني عبارة ابنتي – كدت أقول بل أنا شاب يابنيتي! – إلا أني قلّبت الأمر على وجوهه كلها:

الصين لم تغلق مطاراتها بعد، والألمان لم يمنعوا السفر، والرحلات الجوية في العالم كله لم تزل متواصلة، وما اطلعنا عليه في بعض وسائل الإعلام عن انتشار المرض في هذه المدينة لم يتم تأكيده. الحياة في المطار طبيعية، وأنا شخصياً، قد حصلت على لقاحي ضد الأنفلونزا. الأنفلونزا هنا مميتة. في كل سنة يموت الكثير من الألمان. من الأوربيين. لم يكن الزكام في بلادنا إلا مجرَّد مزحة مرضية، ومتاعب عابرة.

مرة أخرى، حضرت صورة صديقتي آيمي أمام عيني. ضحكتها. ابتسامتها. رسائلها البريدية إليّ وأنا في قامشلي، بعد أن عادت إلى بلادها، وحصلت على شهادتها الجامعية في قسم اللغة العربية بتقدير “جيد جداً” لتراسلني عبر الإيميل، بعد أن وصل الإنترنت بلادنا، وتظل تراسلني، طوال هذه السنوات. تحدثني عن أوضاعها. زواجها هناك. إصابة زوجها بمرض خبيث وموته بعد إحدى عشرة سنة من زواجهما، لتربي طفلتهما الوحيدة.

ظهر عليه المرض يا إبراهيم بعد خمس سنوات من زواجنا…

أحاول أن أواسيها ثم أقول:

ألم أقل لك ابقي هنا..؟!

بيننا قبلة طويلة في المدينة الجامعية في دمشق وهذا ما أعيش على ذكراه

والقصيدة التي كتبتها عنك؟

لقد ترجمتها إلى الصينية

كان الجمهور ينتظر ردي عليها، بعد أن رددت على أسئلة كل من سبقوها، قلت لها:

يبدو لأنني تعلمت القرآن الكريم، قبل أن أدخل المدرسة، كما أنني كردي، وتأثير لغتي الأم قد يعطي نكهة ما لصياغتي بالعربية.

صفقت لي، وهي تنهض:

توقعت أن تكون من جنسية أخرى

كان يرافقني في الأمسية عدد من أصدقائي الكرد، في الأمسية، صفقوا معها، ويبدو أن ما حدث أربك مدير الندوة، وهو رئيس دائرة لا تعترف إلا بلغة واحدة في البلاد، بل إن اللغة الكردية في عداد ما هو ممنوع. كتب لي مدير الندوة بوجه ممتعض، على قصاصة قصيرة وضعها أمامي:

ليتنا ننهي الحوار.

قال بصوت عال:

سنكمل الحوار في غرفة الإدارة

ثم همس في أذني، ستمضي بي إلى – ستين داهية يا أستاذ – كان علي أن أنبهك.

أنا لم أخطئ كرديتي ليست سرَّاً

لملمت أوراقي. غادر مدير الندوة المنصة، وهو “يطفىء” الميكروفون، ليسبقني إلى الإدارة. كان الجمهور لايزال في القاعة، نادى الفتاة، سار معها، ثم لحقت بهما إلى مكتبه. مكتب رئيس المركز. كانت صورة حافظ الأسد في صدر الغرفة. امتلأت الكراسي بالجمهور، طرح رئيس المركز سؤالاً:

ماذا عن الأمطار عندكم أستاذ إبراهيم؟

أمطار السنة غزيرة والحمد لله

همس في أذني:

أخشى أن يسألك أحد عن الكرد في الجزيرة

سأجيبه

إذاً، لنشرب الشاي، ونمضي.

لا داعي لشرب الشاي، قلت ذلك بانفعال

ثم ناديت أحد أصدقائي بالكردية

لقد انتهينا، هيا لنغادر.

واستأذنت من كل من في مكتب المدير، بعد أن مددت إليه يدي، وأفكر بالخروج إلى حمامات المركز، أفرغ ما في مثانتي من بول، لكنني، تحت وطأة الخجل أمضي خارج المبنى، بانتظار سيارة أجرة لتعيدنا إلى الفندق

لم تنس آيمي كل ما حدث، ولطالما حدثتني عما جرى في لقاءاتنا المتكررة التي استمرت ثلاث سنوات، إلى أن سافرت إلى بلادها، بل لطالما أشارت إلى ذلك اليوم، في مكالمتنا عبر المسنجر، ومن ثم السكايب، والواتس آب، لنضحك

بابا أرجوك ألا تسافر!

ابنتي، صديقاتي وأصدقائي الصينيون دعوني إلى مهرجان مهم في أووهان. حجزوا لي مقعداً في الطائرة، وجناحاً في الفندق، ووضعوا برنامجاً تكريمياً لي، سأبقى هناك أسبوعاً كاملاً، وستتمُّ طباعة مجموعتي الشعرية المترجمة إلى الصينية في حفل كبير يحضره مسؤولو الثقافة الكبار في تلك الولاية. أخجل أن أرفض طلب صديقتي مديرة دائرة الثقافة في أووهان.

ثمة تفاصيل كثيرة ما عدت أتذكرها. تلك عادتي، كلما حاولت أن أمضي في استذكار ما رأيت، لا يبقى غير خيوط هلامية. كل ما أعرفه أن مترجمي اتصل بي، وقال: ما عدت قادراً أن آتي. تم فرض حظر التجول. المهرجان الشعري الذي كان مقرراً إقامته تأجل إلى إشعار آخر. المدينة كلها قد حوصرت، لا أحد يدخلها، أو يخرج منها. سأحاول إعلام الفندق الذي تقيم فيه تأمين ما يلزمك من أطعمة

كنت أرتعد، أفكر بسبيل العودة إلى أهلي. لقد ظننت أن الرحلة إلى أووهان محطة ترفيهية في حياتي، أنفض عني غبار تعب السنوات. لم تستقبلني في المطار، وحين سألت لِمَ لم تأت كما وعدتني. كنت أمنِّي نفسي أن أقبلها، مرَّةً أخرى، كما قبلة اليوم الأخير، حين ودعتها في مطار دمشق، بعد حصولها على الإجازة في اللغة العربية.

هل سأقبلك هناك في المطار؟

أنت تعال…!

يكفيني ألا أحصل هناك إلا على قبلتك

ماهي أطعمتك المفضلة؟

أريد أن أعود، فكر جيداً أيُّها المترجم الطيب. كدت أقول:

أبحث عن حمام أتبول فيه

رجاء، لا أريد لحوم الخفافيش!

هل من مطاعم إسلامية هنا؟

وأعتصر مثانتي

كل المطاعم مغلقة. مطعم الفندق سيقدم لكم وجبات محددة طوال فترة الحجر، إلى أن يسمح لكم بمغادرة البلاد، ومؤكد أنك ستأتي مرَّة أخرى إلى هذا البلد

أحسُّ بألم في مثانتي. أشعر بحاجة إلى التبول، أركض صوب الحمام لأراه مغلقاً أكاد أصرخ:

أليس من حمام آخر لأتبول فيه..!؟

أصارحه:

لا أجد هنا حمامات

اسأل عمال الفندق

يقولها وهو يسعل بعمق

لا أرى أحداً في الفندق كله. حتى وإن التقيت أحدهم فكيف سيفهمون علي

ثم قلت:

الفندق خاوٍ لا أحد فيه غيري

هل ستأتيني غداً؟

الحكومة تمنع الحركة في المدينة. ثمة حجر صحي في الولاية كلها

وماذا عن الدكتورة آيمي؟ أريد أن تساعدني لأعود إلى أهلي

تصادى صوت ابنتي في أذني:

أتوسل إليك أن تعود حالاً إلى البيت..!

إنها في العناية المشدَّدة. لقد أصيبت بمرض كورونا؟

يا إلهي. جميل، إذاً، أنني لم أقبلها..

بل ليتني قبلتها، وتخلصت مما أنا فيه

تذكرت صديقتي روكا، وتوسلها إلي:

إبراهيم لا تغامر، أعتقد أننا لن نلتقي بعد اليوم، واختنق صوتها

لامحالة، أنا هالك هنا

كنت أتابع عبر الإنترنت أخبار المرضى المصابين بهذه الجائحة في أووهان، وأنا في غرفتي، تتحول الدقائق إلى أيام، إلى أسابيع، إلى شهور، سنوات.

لا أريد أن يدفنوني هنا في الصين..

سأكتب وصيتي على صفحتي “الفيسبوكية”

آه، الفيس بوك لا يفتح هنا..!

إنهم يدفنون الموتى في أماكن مجهولة لا يعرفها أحد

أسعل. أسعل. ترتفع حرارتي. أشعر بالصداع في أعلى الرأس

يا إلهي أنا مصاب بهذا الوباء

أسمع صوت زوجتي قربي مؤنبة إياي وهي تقدم إلي قدحاً من الماء بالليمون:

ألم تنس صديقتك آيمي برايلي بعد كل هذه السنوات؟ هيا اذهب إليها.!

أنظر إليها، وأنا افتح حدقتي عيني. أفركهما جيداً، وأسألها وانا أرتعش:

أين نحن الآن؟

أدقق فيما حولي، تظهر لي مكتبتي. ساعة الحائط. رواية – الحب في زمن الكوليرا – وهي مفتوحة على الصفحة “243”.

أسرع إلى الحمام، لأستحم، وأتخلص من بركة العرق التي أسبح فيها، بعد أن أفرغ مثانتي التي تكاد تنفجر!

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني