fbpx

ضبط/تعديل النظام الدولي عبر بؤر الفوضى: سوريّة نموذجاً مُرشِداً

0 372

يدرس كتاب لاري دايموند: “روح الديموقراطية… الكفاح من أجل بناء مجتمعاتٍ حرّة” الصادر عام 2008، تاريخ غالبيّة حالات التحوّل الديموقراطي، فيما عُرِف بالموجة الديموقراطيّة الثالثة، ويُشكِّل الكتاب دليلاً مُرشِداً للمهتمّين بعمليات المقارنة بين أنظمة الحكم وآليّات التحوّل الديموقراطيّ.

أمّا بالنسبة للباحثين السوريين، فسيقودهم هذا الكتاب باتّجاهٍ مختلفٍ تماماً، أو بالأصحّ، سيثير لديهم مزيداً من الآلام بعد عقدٍ من الصراع مع ديكتاتوريّة الأسد ومع النظام الدولي، وسيجدون أنّ الفظاعات التي ما تزال تُرتَكب في سورية، لم تشهد البشرية المعاصرة ما هو أشدّ منها سوى حالتين: (ستالين، وماو تسي تونغ)، وهنا المقصود حالة قمع السلطة الديكتاتورية للشعب المنتفض/المعارض لها، وهي في قائمة العشرة الأشدّ سوءاً منذ مطلع القرن العشرين، وهي الأكثر سوءاً وإجراماً منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.

بالعودة إلى كتاب دايموند، نلحظ أنّ كلّ الحالات المدروسة (تقريباً)، هي بالأساس حالاتٌ شبيهةٌ بالحالة السورية، بمعنى أنّها نظامٌ عسكريٌّ تسطليٌّ فرديٌّ أو حزبي، هيمن بشكلٍ منفردٍ على السلطة لسنواتٍ أو عقود، قبل أن ينتفض مواطنوه عليه ليطيحوا به عبر عدّة أشكال، أبرزها: إعدام الديكتاتور، هروب الديكتاتور، عمليات تسويةٍ ومفاوضاتٍ متبادلة. لكنّ أكثرها غرابةً بالنسبة لنا نحن السورين، كانت خسارة الديكتاتور في الانتخابات (المُرَاقَبَة دولياً)، فكيف يكون الديكتاتور ديكتاتوراً إن كان منافسوه لا يتعرّضون للتصفية، وإن كان بإمكانهم تحشيد المواطنين خلفهم للإطاحة بالديكتاتور، على الأقل هذا المشهد مختلفٌ تماماً عن ديكتاتورية آل الأسد في سورية.

من جهةٍ أخرى، لا تشذّ الحالة السورية، عن تلك الحالات منذ اندلاع الثورة السورية، وحتّى آب/أغسطس 2013 (تاريخ أول مجزرةٍ كيماويةٍ في سورية)، حيث كانت المؤشّرات تؤكّد أنّ النظام تداعى وأنّ مزيداً من الضغط المحلي، سيقود خلال أشهرٍ قليلةٍ إلى تفكيك هذا النظام، وبدء عمليّة تحوّلٍ شاقّةٍ وطويلة (لم تكن المؤشّرات توضّح شكل الانتقال المُقبِل، إنّما كانت في صالح اقترابه).

لكن مع المجزرة الكيماوية 2013، ستبدأ الحالة السورية بالشذوذ عن الحالات الدولية السابقة كافّة، صحيحٌ أنّ كثيراً من الحالات شهدت تدخّلاً دولياً، لكن التدخّل فيها كان في غالبيّته لصالح تعجيل عملية الانتقال الديموقراطيّ (من مثيل التدخّل الأمريكي في أوروبا الشرقية لتعزيز الديموقراطية)، واكتفت حالاتٌ قليلةٌ بتدخّلٍ خارجيٍّ لصالح الطغاة (التدخّل الأمريكي لتعزيز حكم الطغاة المقرّبين من الولايات المتحدة، أو ما يُعرَف بـ: الديكتاتورييّن المُفضّلين). في حين أنّ الحالة السورية كانت الأكثر استعصاءً منذ ظهور الديموقراطية ومنذ اختطاط عمليّات الانتقال الديموقراطي.

وسيقود هذا الاستعصاء، حتى الآن، إلى إبادة ما يُقارب مليون سوريٍّ على الأقل، أو ما يعادل 5% من سكان سورية لعام 2011 (وبمعدل 375 شهيدٍ يومياً/شهيدٍ كلّ 4 دقائق، طيلة عقدٍ كامل)، وهناك احتمالٌ أنّ يكون الرقم أكبر من ذلك، حيث تُرجّح بعض المنظّمات أن يصل الرقم إلى مليونين بمن فيهم قتلى جيش النظام وميليشياته من السوريين. إلى جانب تهجير ما يقارب 50-60% من السكان داخلياً وخارجياً، عدا عن المعتقلين الذين من المتوقّع أن تتجاوز نسبتهم 1-2% من سكّان سورية لعام 2011.

وصحيحٌ أنّ هناك دولاً شهدت إبادة كلّ سكانها تقريباً، في فترات المدّ الأيديولوجي النازي والسوفييتي، لكنّ ذلك كان نتيجة احتلالٍ خارجيٍّ مباشر، وليس همجيّة نظام حكمٍ محلي.

مجموعة عوامل تحدّد هذه الهمجيّة، أوّلها طول فترة الديكتاتورية (4 عقود قبل أن تنطلق الثورة)، رغم أنّ هذه الفترة شهدت نزاعاتٍ بعضها مسلّحٌ مع النظام، بينما كان النظام يشتغل على الاستحواذ على مصادر القوّة في البلاد كافّة، وبالتالي هذا سيجعله مختلفاً كثيراً عن حالات الطغيان المدروسة لدى دايموند.

وثاني هذه العوامل، البعد الطائفي (الحقد الحضاري والتاريخي)، الذي بُنِي عليه ما نفضل تسميته دوماً بـ “العَلمَانية الطائفية”، والتي تقوم على اعتبار أنّ الآخر (العربي السني)، عدوٌّ حضاريٌّ أبديّ، يتم الاشتغال إمّا على تصفيته، أو إخضاعه بالقوة، أو طرده نهائياً بشكلٍ غير قابلٍ للعودة. وهنا يظهر لدينا تشابهٌ في البعد الإثني مع حالاتٍ إفريقيّةٍ أيضاً، لكنّ المفارقة أنّ تلك الحالات تحوّلت إلى حربٍ أهلية، بمعنى أنّ ضحايا الحرب تلك، كانوا من مدنيّي كلّ الأطراف (وليس طرفاً واحداً مُستَهدَفاً)، بينما الحالة السورية هي مُطابِقةٌ تماماً لحالة التطهير العرقي التي جرت في يوغسلافيا (مع الانتباه إلى الاختلاف في ضخامة الحالة السورية وطول فترتها).

أمّا المتغيّر الأكثر تأثيراً في الحالة السورية ما بعد 2013، والذي قاد إلى هذا الاستعصاء طويل الأمد، فهو التدخّل الدولي بأشكاله كافّة، ومنها:

• التدخّل التطهيري: وهو الأخطر، وهو التدخّل الدولي (على الشاكلة الاحتلالية)، من قبل إيران وروسيا، وداعميهم وميليشياتهم، والذي تضمّن فيما تضمّنه أبعاداً إثنيّةً عقيديّة، تهدف إلى توسيع عمليّة التطهير البشريّ تلك.

• التدخّل الكابح: وهو تدخّلٌ عربيٌّ وأجنبيٌّ (أصدقاء سورية)، اشتغل على كبح النزعة التحرّرية، وإشغالها بكثيرٍ من التفاصيل التي تُعيق إتمام مهمّتها الثورية (عن عَمَدٍ أو عن تجريب سياسات)، وكان بمثابة إطلاق يدّ النظام وتقييد حركيّة المجتمع السوري.

• التدخّل المُحايد سلبياً: وهو الاصطفاف على الحياد من قبل بعض الأنظمة (العربيّة خصوصاً)، والمساواة بين الضحايا والمجرمين، ما سمح للنظام وداعميه بالاستمرار في عمليات التطهير البشري.

• التدخّل التخريبيّ: وهو تدخّلٌ (عربيٌّ في غالبيته)، كان هدفه حرف المسار الثوري نحو مساراتٍ جهويّةٍ أو جهاديّةٍ أو نفعية، للحفاظ على تماسك نظام الأسد في مقابل تشتّت الفعل الثوري. وهدف هذا التدخّل كبح المدّ الديموقراطي ودعم الثورات المضادّة التي تحفظ استمرارية نَسَق الأنظمة التسلّطية في المنطقة العربية (رابطة الديكتاتوريّات).

• التدخّل التفكيكي: وهو تدخلٌّ عربيٌّ وأجنبي (وتحديداً أمريكي/إماراتي)، لدعم جماعاتٍ انفصاليةٍ (وتحديداً ميليشيا قسد)، وتفكيك سورية إلى دولتين أو أكثر.

هذا كلّه، كان بالإمكان تجاوزه بعيداً عن المتغيّر الأكثر أهميّةً وتأثيراً، وهو متغيّر البيئة الدوليّة ذاتها، التي وجدت في سورية، بؤرة ضبطٍ/تعديلٍ للنظام الدولي أو لسلوك هذا النظام.

ما نقصده هنا ببؤرة الضبط أو التعديل، أنّ النظام الدولي بلغ منذ سنواتٍ عدّة، مرحلة تأزّمٍ تتعلّق بِبِنيَته وآليّات الاستفراد الأمريكي فيه، مع تصاعد دور القوى غير القانعة، وهي قوى إقليمية ودولية، ازدادت قوتها ومواردها واستقرارها، وبدأت تتطلّع إلى أدوارٍ أكثر حجماً في البيئة الدولية، للحصول على مصالح أكبر مما كانت تجنيه من هذه البيئة.

يترافق مع ذلك، توسّع أدوار الدول الوظيفيّة، في المناطق التي تشهد فراغاً استراتيجياً، بمعنى المناطق التي تشهد انهيار أو تراجع أدوار القوى الفاعلة الرئيسة فيها (بؤر الفوضى). حيث تَستَخدِم القوى الجديدة الصاعدة في منطقة الفراغ، دولاً وظيفيةً مُهمّتها القيام بخدماتٍ جانبيةٍ للدول الفاعلة الجديدة (وكلاء خدمات)، مقابل حماية الدول الوظيفيّة (الصغيرة)، وتأمين استمراريّة أنظمة الحكم فيها، ومنحها مكانةً إقليميّةً تفتقد إليها.

هذا التأصيل، يعني في المشهد السوري:

– قوى دوليةٌ مهيمنة: الولايات المتحدة (إسرائيل والمملكة المتحدة جزءٌ من هذه المنظومة الليبراليّة الغربيّة المسيحيّة/اليهوديّة الديموقراطيّة).

– قوى دوليةٌ غير قانعةٍ تتطلّع لتعزيز موقعها في النظام الدولي/الإقليمي: إيران، روسيا، تركيا.

– قوى وظيفيةٌ إقليميّة: الإمارات، قطر.

تفاعُل هذه القوى، كان يتمّ عبر نزاعاتٍ مسلّحةٍ بين الدول، وصولاً إلى نزاعاتٍ كبرى تؤدي إلى سقوط النظام الدولي، أو بمعنى آخر سقوط القوى المتراجِعة وبروز القوى الصاعَدة، وبالتالي بناء نظامٍ دوليٍّ جديد.

ما جرى منذ عام 1990-1991، كان استثناءً تاريخياً، حيث لم تقع حرب بين القطبين أولاً، ولناحية استفراد قوّةٍ واحدةٍ فقط بالنظام الدولي ثانياً، وتَراجُع أهميّة الحروب بين الدول مؤقّتاً (لم تعد واردةٌ مؤقّتاً) ثالثاً. وبالتالي ستتعمّق الأزمات التي تظهر في بِنيَة النظام الدولي، سواءً لناحية عدم قدرة النظام على ضبط النزاعات الدوليّة كلّها، وطموح الصعود (المصالح) الدائم لدى كثيرٍ من الدول، وهي بحاجةٍ إلى عمليّات ضبطٍ أو تعديلٍ لبِنيَة النظام، أو إعادة إنتاجٍ له، حتى يكون قادراً على استيعاب تلك المتغيّرات، ومن ثمّ الاستمرار لقرابة ثلاثة عقودٍ حتى الآن، دون الإطاحة به.

هذا التعديل الذي جرى بعد احتلال العراق (2003)، ظهر عبر خلق بؤر فوضى، أو الاستفادة من بؤر الفوضى المتوفّرة، بحيث يتمّ من خلالها تفريغ أزمة النظام الدولي، سواءً عبر توزيعٍ جديدٍ للمصالح في بيئة الفوضى، أو الذهاب نحو نزاعاتٍ مسلّحةٍ داخل تلك البيئة، وهنا كانت سورية، إلى جانب ليبيا واليمن، بيئات فوضى بالغة الأهميّة ومناسبةٍ للنظام الدولي حتى يتكيّف مع جزءٍ من أزماته السياسيّة والقياديّة والاقتصاديّة، وحتى على مستوى الهُويّات.

أي أنّ الحالة السورية، كانت محكومةً وبشدّةٍ بالمتغير الدولي، أو بأزمة النظام الدولي، وبالتالي فإنّ سورية (وليبيا واليمن) ضحايا هذا النظام، الذي كان يرى أنّه من المناسب له استمرار الصراع السوري، ولو كان على حساب القضاء على محاولة الانتقال الديموقراطي، وهو ما سمح لديكتاتوريّة الأسد المتداعية منذ سنواتٍ طويلةٍ أن تستمر.

في حين كان بروز حركات معارَضَةٍ واحتجاجاتٍ واسعة، وانهياراتٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ حادّة، وفضائح أخلاقيّةٍ وإدارية، وجرائم ضدّ الإنسانية، في كثيرٍ من الحالات المشابهة، وبدرجةٍ أقلّ حدّةً، كفيلاً بالإطاحة بالنظام الديكتاتوريّ.

إلا أن سورية كانت بؤرة فوضى دولية، وظيفتها:

– بيئة أمريكية لإشغال روسيا عن أوروبا الشرقية التي تسعى للعودة إليها. 

– وبيئة أمريكية لاستنزاف قدرات وموارد إيران وميليشياتها.

– وبيئة للإعلان الروسي عن العودة إلى العمل الواسع في المجال الدولي (رغم أنّها بعيدة عن القطبية)، وخارج محطيها الإقليمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

– وبيئة تَمَدُّدٍ للمشروع الفارسيّ الاحتلاليّ التطهيري.

– وبيئة لتعزيز المكانة الإسرائيلية.

– وبيئة للإعلان عن الصعود الإقليمي التركي.

– وبيئة للأدوار الوظيفية الخليجيّة (التفكيكيّة أو التجريبيّة أو التخريبيّة) للمنطقة، في ظلّ غياب الفعاليّة الإقليميّة العربية (غياب وليس ضعف أدوار العراق ومصر، التي هي بدروها تقع ضمن دوائر الفوضى أيضاً).

– وبيئة لتصفية الموجة الجهاديّة الثالثة (داعش والنصرة).

لكن علينا الانتباه من تحميل البيئة الدولية وحدها كامل المسؤولية، صحيح أنّ قسماً مهمّاً من المسؤولية يقع عليها، لكن في المقابل، هناك إخفاقاتٌ واسعةٌ وقعت في سلوك القوى السورية (السياسية والعسكرية)، أثبتت عدم قدرتها على التأقلم مع ضخامة الحدث، وسهولة استقطاب جزءٍ كبيرٍ من أطيافها (أيديولوجيّاً، أو نفعيّاً، أو نزاعيّاً)، وبالتالي سهّلت كثيراً مهمة ضبط/تعديل النظام الدولي عبر سورية.

مع التنبيه إلى أنّ مشكلة القوى السورية، لم تكن في ضعف مواردها أو في حلفائها، بقدر ما كانت إشكاليّاتٍ بِنيَويةً على عدّة مستويات، وخصوصاً بمقارنتها بحالاتٍ دوليّة (ثوار فيتنام، ثوار كوبا، طالبان، …)، التي استطاع أصحابها مقارعة الولايات المتحدة مباشرةً ووجهاً لوجه، نتيجة التماسك الداخلي فيها.

فيما تبدو سورية اليوم، أبعد ما تكون عن الديموقراطية، وباتت عملية الانتقال أصعب بكثيرٍ مما كانت عليه عام 2011، ليس بسبب ديكتاتوريةٍ مُنتهِية الصلاحية غير قابلةٍ للاستمرار (هي أشبه بمريضٍ ميّتٍ سريرياً، ومستمرٍّ بالحياة نتيجة أجهزةٍ خارجية)، بل بسبب حجم ترسيخ الأدوار الخارجية في سورية (الاحتلالات)، والذي لن يكون من السهل أبداً التخلص منها وبناء حكومةٍ وطنيةٍ عاجلاً.

عدا عن الانهيارات الكبرى التي حصلت على مستوى الهُوية، والبِنَى التحتية، والاقتصاد، والمؤسّسات، والتغيير الديموغرافي، وهذه لن يكون بالإمكان معالجتها سريعاً، وستشكِّل جميعها عوامل ضغطٍ حادّةٍ على عملية الانتقال.

ولم يعد المشهد السوري بانتظار تغييرٍ من القوى السورية، التي لم تعد قادرةً على إحداث أيّ تغييرٍ يُذكر، في مقابل انتظار تسوياتٍ دوليّةٍ بين القوى التي تشتغل على ضبط النظام الدولي عبر سورية، والبحث عن بؤرة فوضى مضطربةٍ أخرى لتعديل السلوك الدولي عبرها.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني