fbpx

سيميائيات الحق المنقوص وخطاب الكراهية

0 159

نزعة التفوق الأيديولوجي الواهمة، نمو “الأنا” مفرطة التمدد بلا حدود، استخدام اللغة العنفية (التنمر)، تنامي البحث، بل تصيد مغرض لمعنى مختلف، عن نقاط الخلاف والتعامي المقصود عن المشترك ونقاط التفاهم…إلخ، تبدو كلها ظواهر تجتاح ساحات الحوار المفتوحة بين السوريين، سواء على مستوى صفحات التواصل الافتراضية أو بخضم اللقاءات الفيزيائية أيضاً، كدلالات على محتوى ومضمون ما يعرف بخطاب الكراهية؛ ما يستلزم السؤال في المسببات وكيفيات العلاج لخطاب معوّم ومعمم في غالبية المشاهد السورية.

وحيث يبدو السؤال في مستوياته السيكولوجية والثقافية لا تكفيه مقالة رأي، بقدر مؤسسات بحثية وندوات حوارية عدة، لكن من المهم القاء الضوء على سيميائيات ودلالات خطاب الكراهية هذا، والتي تبدو ظاهرياً على انها مباشرية ولحظية، إلا أنها في خلفية المشهد ذات دلالات غير مرئية وعلامات فارقة، تشير إلى الحق المنقوص في التحقق بعمر السنوات التسع الماضية. وهو عنوان بحثي وحواري عريض لدول مجاورة حاولت العمل عليه طويلاً، والذي كان بإحدى اشارته، عراقياً، للعمل على تحقق التنوع المجتمعي كأمر طبيعي ف((بناء مجتمعات متناغمة تعيش بسلام هو ليس مجرد طموحات الشعوب بل حق من حقوقها المغتصبة)) . فحق الوجود في ظل دولة حقوقية ودستورية، تكفل حرية الرأي وتصون الحقوق واختلاف الرؤى وتعمل على تعزيز المشترك بين المختلفين في واقع عام، هو مفهوم المواطنة ذات سمة الشخصية العمومية كقاسم مشترك لكل الخصوصيات الفردية والتكوينية الأهلية والمدنية والسياسية المنضوية في دولة حسب جان جاك روسو ، وهو ما لم يتحقق بعد للسوريين لليوم! مترافقٌ مع تنامي مطرد في حجم الكارثة السورية وعبئها الثقيل على النفوس، ما أدى لهذا التأويل الملتوي لمفهوم الحق لجهة خلاف غيرها تفترض مركزيتها وغلبتها فيه، دينية أو جهوية أو سياسية أو عسكرية، قائمة على أساس الأحقية في تقرير مصير وشؤون الناس في ذاتها دون غيرها، وتفترض نفسها على صواب والباقي على ضلال، محملة باقي الأطراف مسؤولية الكارثة برمتها، مستعينة بكل الأدوات الممكنة عليه، وأهمها اللغة، ولهذه اللغة دلالاتها!

في المبدأ، حيث تبدو المشاعر السلبية، كالغيرة والحسد والنفور وبمستوياتها العليا الكراهية، ظواهر طبيعية في أي مجتمع، مثلها مثل المشاعر الإيجابية، مرتبطة بالإنسان في خصوصيته وطبيعته البشرية، غير أن تحولها لأفكار ومشاريع سياسية ذات حوامل ونماذج مجتمعية يُروج لها اعلامياً، مشكلةً ظاهرة كلامية ولغوية ينقلها من حيزها الخاص والمشروط بالطبيعة البشرية والإنسانية كحالات خاصة، إلى ظواهر عامة لغوياً وسلوكياً، ما يستلزم التوقف عندها وعند مسبباتها وطرق علاجها. فاللغة خضوع وسلطة يمتزجان معاً، ما لم تتحقق من خلفها شروط الحرية بمقوماتها المادية والمعنوية، تتحول اللغة لقوة اكراه وتسلط واستحواذ، وبالضرورة استبداد نفسي قبل أن يكون سياسي أو سلطوي، وهذا ما يحيلنا لدروس السيميائية في تناولها العلامات والدلالات الرابطة بين اللغة والحدث بطريقة منهجية، تفترض في اهم مباحثها أن الحرية مشروطة بالانفكاك من مصائد اللغة وقيودها النفسية بالمبدأ، خاصة اذا ما ارتبطت بنموذج معوم للعنف بلا حدود حيث تصبح اللغة سلطة بذاتها، فحسب بارت ((اذا لم تكن الحرية مجرد القدرة على الانفلات من قهر السلطة، فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة)) .

تعمل نماذج التعليم والتربية والتأهيل والعلاج النفسي للحد من تنامي سلوكيات الانسان السلبية، بطرق إجرائية متعددة محاولة تعديل السلوك الإنساني المحمل بالمشاعر والانفعالات السلبية، إلى سلوكيات إيجابية عبر طرق علاجية وارشادات سلوكية قد تصل درجة الحالات الإجرائية والقانونية، كتلك التي حاولت اليونسكو تقديمها للحد من استيعاب خطاب الكراهية وعلاجها وفق القانون والشرعة الدولية لحقوق الانسان ، فهل تكفي التربية والتأهيل النفسي علاجاً؟ وهل يمكن لتلك الحالات الإجرائية أن تمثل حلاً رادعاً وجذرياً لها؟ فحيث تولي المنظمات الحقوقية أهمية كبرى للتأهيل النفسي والتربوي للحد من خطاب الكراهية هذا، إلا انها تفترض علاجه في دول ذات مؤسسات قانونية قائمة على مبادئ الحرية والحقوق الدستورية والقانونية المصونة، لا في دول تتنامى فيها الفوضى وحمى الصراع الدموي دون حلول راهنة أو قريبة، ما يجعل حق الوجود بذاته منقوص المقومات المادية والمعنوية. وبالتالي تصبح كل الحالات الإجرائية المعنونة بالحق الإنساني العام منقوصة البعد المادي في التحقق، وبالضرورة عاملة على تنامي لغة وخطاب الكراهية هذا، خاصة اذا ما بقيت مسبباته ومحفزاته قائمة ومتنامية دون تفريغ شحناته بالوصول لحق عام طمح له السوريين بداية في دولة الحق والقانون الدستورية، والتي يراها معظمهم اليوم باتت بعيدة المنال وكأنها حق منقوص لوجودهم الذي يستحق أن يكون خلاف ذلك!

من المهم فكرياً ومنهجياً التوجه لمسببات خطاب الكراهية المتنامي مفعوله في الزمن الحاضر بين الأوساط السورية، خاصة تلك الأسباب الغارفة من موضوعة التأخر المجتمعي والتسلط العسكري والسياسي السلطوي، والتي تحيل أسباب هذا التنامي إلى مصادره الانتمائية ما قبل مؤسساتية “دينياً وسياسياً وثقافياً”، والتي لازالت تعبث بمصير السوريين لليوم، وتعمل على إذكاء النزعة الطائفية والأيديولوجية والسياسية بطرق تنافرية وعدائية، والبحث في مبررات كل منها كذات مستقلة عن عوامل تجريمها للأخرى، مع زيادة واضحة في حمولة اللغة التكفيرية التي تدين باقي الأطراف وتبحث من ضمنها عن نقاط برائتها ذاتها من مسؤولية مجريات الحدث السوري، لكن من الضرورة التوجه لأدوات منهجية حديثة تدرس في علامات الترابط كما الانفصال بين الحدث بذاته واللغة كمنتوج عنه، سواء كانت ظاهرية مباشرة أو وظيفية ذات استراتيجية، كتلك التي تدرسها علوم السيميائية، والتي تعتبر اضافاتها المنهجية مهمة من حيث تغير أدوات البحث وطرق استخلاص النتائج والعمل بمقتضاها. فالإغراق في التحليل الذي يربط بين النزعة العنفية السائدة اليوم، والبنية المجتمعية سيحيل لذات النتائج التي ولدت المشكلة بذاتها، بينما العمل على إيجاد النقاط المشتركة التي حملت السوريين على الثورة رغم ما بهم من فوات مجتمعي موصوف سلفاً، سيقود نتائج البحث مرة أخرى للعمل على تقليص نقاط العداء وخطاب الكراهية هذا، وذلك من خلال البحث عن مقومات التعاقد الممكن الرضائي بين عموم السوريين على مفاهيم السلام والعدالة والحقوق العامة، اذا ما تمكنوا من تحييد نقاط الخلاف المادية والمعنوية بينهم، والعاملين على اذكائها من المتصارعين على السلطة فيها، سواء من السلطة القائمة أو المتنازعين معها مع سلطات بديلة.

الانسان بعمومه وبساطته ميال للحق الطبيعي وقابل للتوافق حول شكل نيله وتعاطيه سلمياً، وهو حال الغالبية من الشعب السوري الذي ذاق ويلات العنف، والممارسات القهرية من كل صنوف السلطة والميليشيات والنزاعات الدموية، والتي أحالته لبحر من الكوارث تتقاذفه الأجندات الدولية، وتتلاعب في مصيره وحقه المشروع في بناء دولته. الانسان السوري المتسلح بالصبر والتسامح قادر على الوصول لهويته الإنسانية بفطرته الإنسانية الأولى، إذا ما تباعدت عنه المشاريع الإقليمية والدولية، والتي تتشارك مع نماذج الصراع المحلية العسكرية والسياسية والدينية في تقويض حق السوري في أمانه وحياته ووجوده. تلك النماذج التي تتخذ لنفسها عناوين عدائية لليوم أبرزها:

– الدلالة التفوقية أيديولوجياً المتمثلة بالرفض السياسي النخبوي للاختلاف، وتقديم الانكماش والتمترس على الانفتاح والحوار.

– التداخل غير المشروع بين الهوية الذاتية السورية والمشاريع الدولية، والتي تشير سيميائياً إلى ((تداخل الذات الداخلية مع العالم الخارجي أو مع ذوات أخرى)) . والمتمثلة بارتهان الحل السياسي للتدويل بطرق متباينة، الروسية “السوتشية”، الثلاثية الروسية/الإيرانية/التركية “الأستانية”، أو الأممية “الجنيفية” والمنقوصة للقرار 2254/2015 لحكومة انتقالية غير قابلة للتنفيذ لليوم، وكل فريق داعم لإحدى هذه الحلول يجد مصلحته فيها دون الأخذ بمصالح وحق السوريين العام!

– الدلالات القهرية لتنامي ثقافة الكراهية ونشرها عبر الاعلام الموجه والتفريق بين الأقليات والأكثرية على أساس مذهبي يلغي شرط التعاقد الوطني على مفهوم المواطنة أولاً، ويلغي التنوع المجتمعي كحق وجودي ثانياً، ويحيل الجميع لنزعة هيمنة مركزية ذات سطوة تفترض البرهان عليها جزافياً.

وهذه بخلاصتها تحيل لثلاثية: الحق المنقوص، الحل الموهوم، العنف اللغوي، كدلالات منهجية على خطاب الكراهية ومن يروج لها، أو يعمل بها، معتقداً أن الثورة ومن بعدها سلطة الدولة ملك يمينه! بينما حاملي الثورية كحق عام في التغيير الكلي والمحمولة على نزعتي التسامح والسلام المعجونة بالإنسان بالفطرة، لازالوا يحاولون الجمع بين مقومات وجودهم المادي المتناثر، وإمكانات فعلهم الفكري والثقافي للنظر للغد كما اليوم، مدركين في قرارة نفسهم، وفي مقارنة التاريخ، وعلامات حضوره اليوم ((أن الناس لا يتوقعون الثورة لأنفسهم بل لأطفالهم)) ، ما يجعلهم يبحثون لحظياً وزمنياً عن كل مفردات التعاقد الوطني عدالة ومواطنة وحرية وسلام، في مقابل كل ما يحظ على الكراهية وينميها، وهذا ما لم يتوقف لليوم، رغم هول الكارثة السورية وتأخر حلولها المفترضة..

المراجع:

– السيمائية (السيمولوجيا) علم يدرس العلامات والدلالات في الحيز المجتمعي كجزء من علم النفس العام، وحسب فريناند دي سوسير، في محاضرات في علم اللسان العام: علم له الحق في الوجود وعلم اللسان جزء منه.

– جارالله العمار، ندى، دور الاعلام في الحد من ثقافة الكراهية ونشر ثقافة الاعتدال، مؤتمر البحرين، 1/2018.

– روسو، جان جاك، 2011، في العقد الاجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

– بارت، رولان، 1993، درس السميولوجيا، ترجمة بنعبد العالي، توباقال للنشر، المغرب.

– اليونسكو، مكافحة خطاب الكراهية في الانترنت، باريس، 2015.

– حمداوي، جميل، سيميوطيقا التوتر، المجلة الثقافية الجزائرية، 7/8/2013.

– برينتن، غرين، تشريح الثورة، 2009، ترجمة سمير الحلبي، كلمة للنشر، دبي.

مساهمة الأستاذ جمال الشوفي  في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع  الأستاذ جمال الشوفي.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني