fbpx

سياسة تكميم الأفواه وحكماء السوشيال ميديا

0 445

تحولات مختلفة شهدها العالم منتقلاً من النضال والثورات لأجل حرية الرأي والتعبير، إلى اعتبارها ركناً من أركان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 10/12/1984، وجاء في المادة 19 (لكل شخص الحقّ في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقّ حرية اعتناق الآراء دون أي تدخّل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيّد بالحدود الجغرافية).
حرية التعبير عن الرأي كحقّ أساسي من الحقوق الإنسانية ولا يعلو عليه إلا حقّ الحياة، تعرّض كغيره من الحقوق إلى انتهاكات مختلفة بدءاً من محاولات السيطرة عليه في وسائل الإعلام ثم تحويل الإعلام وسيلة للسيطرة على الجمهور، إلى القيود الجبرية وسياسة تكميم الأفواه التي تمارسها الدول الاستبدادية، انتقالاً إلى المجتمعات والإيديولوجيات الدينية والسياسية التي تعمل على قصقصة الفكر ليتناسب مع انغلاقها. ومؤخراً وبشكل لافت أُعلن عن تشكيل “لجنة الحكماء”، أو مجلس الإشراف على محتوى المنشورات في السوشيال ميديا، مهمته مراجعة المحتوى وتوافقه مع معايير وقيم مجتمع فيسبوك وإنستغرام، واتخاذ قرارات مُلزِمة حول ما إذا يجب السماح بمحتوى معيّن أو إزالته من فيسبوك وإنستغرام.
محاولة السيطرة على وسائل الإعلام التي تحولت إلى ظاهرة عالمية تتعدد أنواعها وأشكالها بحسب نوع وشكل النظم السياسية والبنى الاجتماعية والاقتصادية، بهدف تشكيل رأي عام في العديد من القضايا كـ (محاربة الإرهاب، حماية الأمن الوطني أو القومي، التشهير، والمسّ بالمعتقدات، وغيرها) كان لها أثرها المتفاوت والمختلف على حرية التعبير، ففي دول الغرب التي تحققت فيها الحريات العامة للأفراد على الأصعدة كافةً، واعتاد مواطنوها على الديمقراطية وحرية التعبير، بقيت مسألة الرأي العام بعيدة عن حرية الرأي بمعناها الفردي، فالتماس بينهما محصور في زاوية تبنّي الفكرة المطروحة والمحكومة بالظروف بالنسبة للأفراد أو التكيّف معها، بحيث تبقى الآراء مفتوحة على حرية التعبير الفردية بأشكالها كافةً.
أما الدول الاستبدادية التي تعمد السيطرة على تصرفات الرعية بالاستعانة بتقنيات تواصلية جبرية ويُقابل أي تجاوز بالعقاب الشديد، فإن شعوبها لم تخض سوى جنازير الرقابة والمراقبة، وتكميم الأفواه، بحيث لا يمكن الحديث عن حرية التعبير والرأي إلا من خلال تحوله الفريد إبّان ثورات الربيع العربي، وبعيداً عن أجواء الإعلام الرسمية أو المؤسسات الجديدة وسياساتها، أو الأحزاب السياسية الكرتونية، ليكون الحاضن الفعلي لحرية التعبير عن الرأي قائماً ومبنياً على وسائل الإعلام الرقمية، في عالم افتراضي استطاع من خلاله الفرد أن يحقق جزءاً من ذاته في ممارسة حق حُرم منه على أرض الواقع. واستطاع في الفترة الأولى توليد وضع جديد على أرض الواقع، بتحويل السوشيال ميديا إلى إعلام مواز فاعل في الحشد المجتمعي، والتضامن والتأثير الذي كان ينتقل من حيّز الربط الشبكي الافتراضي إلى ساحات الواقع.
ومع نهاية الثورات على الأرض، بقيت مواقع التواصل الاجتماعي جزءاً من الحراك المجتمعي الذي لم تتحقق مطالبه القديمة، وأضيف إليها مطالب جديدة، ومساحة للتعبير الحرّ “نسبياً” عن الآراء، قبل أن تلتفت إليها السلطات الحاكمة وتحولها إلى قاعدة بيانات مفتوحة لمراقبة الأشخاص وتوزيع التهم عليهم، وهو ما حدث في العديد من الدول العربية التي يكفي “تغريدة” هنا أو “بوست” هناك ليفتح أبواب السجن، فحرية التعبير كانت ولا تزال تشكّل الخطر الأكبر على وجود هذه السلطات.
نافذة التعبير عن الرأي التي شكّلتها وسائل التواصل الاجتماعي، لم تلغِ فعلياً جميع القيود على حرية الرأي، فسياسة كمّ الأفواه ليست حكراً على السلطات السياسية المختلفة، بل محكومة بالعديد من الجنازير الثقيلة لتقييدها في مجتمعات تعيش إرثاً من السلطات الدينية والأبوية السائدة، ولم تألف وجود الرأي الآخر كحقّ، ولم تعرف قيمة الحوار. ففي بعض الحالات كانت مسألة التعبير عن الرأي تتحول إلى صراع بين الرأي والرأي الآخر التي تصل حدود التخوين والشتائم وشيطنة الآخر.
انتقال النمط الاجتماعي المعيش بـجميع “سلبياته وإيجابياته” إلى مواقع التواصل الاجتماعي، أدى إلى انتقال الكثير من السلوكيات اللاأخلاقية كالتحرش الجنسي والتشهير، أو في تحويلها لمساحة حرة للتعبئة الإيديولوجية السياسية والدينية وممارسة العنف وغيرها، لنعيش في الفضاء الافتراضي إشكاليات تعادل إشكاليات الواقع وتفوقها أحياناً. ولكن رغم السلبيات بقيت بالنسبة للشعوب الحالمة بالحرية هي المساحة الوحيدة القادرة على ضم الشرائح المجتمعية كافةً والطروحات والآراء التي لم تجد مكاناً لها في الواقع، وخلقت هامشاً من التعوّد على وجود الآخر المختلف رغم ما يشوبه من الفوضى.
الممارسات السلبية تنتشر شرقاً وغرباً، وتمّت الإشارة إليها بنسبة كبيرة، في لائحة معايير النشر الموضحة على الصفحة الرئيسية للفيسبوك والتي تضم ثلاثة أبواب (العنف والسلوك الإجرامي، السلامة، المحتوى محل اعتراض) مقسّمة إلى 17 بنداً توضيحياً. قامت بإعدادها المجموعة الاستشارية لشفافية البيانات (DTAG) في نوفمبر العام الماضي، كانت مهمتهم تقديم تقييم عام مستقل عما إذا كانت معايير “المجتمع” توفر مقاييس دقيقة، لتحديات الإشراف على محتوى Facebook ومعالجتها.
معايير النشر بما تشكله من منظومة لتحديد سلوك الأفراد ومسؤوليتهم، رغم اختلاف ثقافات المستخدمين، والفجوات الكثيرة فيها، لم تلقَ ضجيجاً، فموجة الضجيج كانت من نصيب تعيين “توكل كرمان” داخل لجنة الحكماء ولأسباب مختلفة منها الانتماء الديني أو الحزبي السابق “الإخوان المسلمين”، ومنها عدم مصداقية حرية الرأي بوجود شخص تحكمه إيديولوجيا سياسية أو دينية، وغيرها الكثير من الإدانات الشخصية لكرمان.
بغض النظر عن أحقية موجة الاستنكار الكبيرة أو عدمها، اللافت في موجة الضجيج وحملات الرفض هو الالتفات لشخص، بدل الالتفات لمشروعية تشكيل مثل هذه اللجنة للرقابة على العقول والأفكار. وهل يحتاج المجتمع الافتراضي للجنة حكماء لتسيير وتحديد حسن السلوك؟!، وهل تكفي الإشارة إلى تأييد دعم حرية التعبير في إطار المعايير الدولية لحقوق الإنسان، لاعتبار فرض لجنة لمراقبة المحتوى لا يشكل انكماشاً في حرية التعبير والتحول من فضاء مفتوح لجميع الطروحات إلى فضاء مقونن ومتحكم به من قبل أشخاص؟!. هذه الأسئلة المشروعة وغيرها فيما يخص حق حرية التعبير ومساءلة من يصادرها لأي سبب كان، غابت عن الأذهان، لنكون أمام مدّ واسع تحكمه أزمة توجيه الاحتجاج والتي لا تقتصر على عوالم إفتراضية، بل تطال أموراً مختلفة ومتعددة تواجهها هذه الشعوب وتستلزم الاحتجاج عليها.
ما تعيشه الشعوب من توجّهات السيطرة على العقول وكَمّ الأفواه شكل إرثاً بشرياً يمنح (سائسي العقول)، ميزة وضع معايير موحدة وقواعد تنظيمية تحدد سلوكيات جبرية للبشر، وتجعل من الحديث عن حرية التعبير بمعناها الأكمل الذي يتضمن صرف النظر عما إذا كان الرأي “صحيحاً أم خاطئاً” مقبولاً أم مرفوضاً من سلطة حاكمة أو أغلبية وأقلية، حديث مبالغ فيه، فهذه الحرية ما زالت تحكمها الظروف المحيطة واللوائح المتعددة التي تجعل حدودها الدنيا حلماً أو رغبة لم تنالها شعوب كثيرة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني