fbpx

ذاكرة الطفولة

0 268

تظل للذاكرة الطفلية لدى الإنسان أهميتها الكبرى في حياته، كما أن التجارب التي مرّ بها، وشهدها، وعاشها، وعاناها خلال هذه الفترة – تحديداً – تعدّ خزاناً مهماً من المادة الخام، والمرئيات، والأحداث، والمعلومات، والرصيد المعرفي، بل والثقافة العامة، بالنسبة إليه، ليكون لها تأثيرها الأكبر فيه، طوال حياته، إذ إن لصدمة الصورة الأولى في الذاكرة، سطوتها الدائمة على سلوكياته، يكاد لا يتخلص منها، حتى وإن استطاع بحكم المثاقفة والتجربة اللاحقة أن يتوصل إلى رؤى، وقناعات لاحقة، تدحض تلك الإشارات التي تصدرها مكنونات الذاكرة، بلا انقطاع، بل إن أي تناقض بين الأرومة المعرفية الأولى التي تحيل إليها تلك المشاهدات وما هو راهن معرفياً ودلالياً، لدى أية شخصية، يدفع إلى خلق خلل ذهني وسلوكي لديها، قد يستمر تأثيره طوال حياتها. 

إن للبيئة الاجتماعية الحاضنة دورها الخاص، في هذا التأثير، لأن مثل هذه البيئة قد تكون ذات تأثير إيجابي أو سلبي على الطفل، من خلال ذخيرته الخاصة من التفاعل مع محيطه، لأننا لسنا أمام مجرد بيئة واحدة، بل هناك – في الحقيقة – بيئات مختلفة، يستطيع بعضها أن يكون الفضاء الناجح في التربية الذهنية والثقافية للطفل منذ أن يفتح كلتا عينيه على الحياة، كما أن بعضها يثبط قدراته، ولا يفلح في استيعابها، بل يكبح طاقاته، ويعيق تطوره الطبيعي، ويدفعه لأن يشذّ عن اتخاذ المسلك السوي، إلى الدرجة التي راح بعض المختصين يعيد جزءاً كبيراً من العلل والأمراض البيولوجية، عند الإنسان، إلى هذه المرحلة، لما للعامل السيكولوجي، من علاقة وثيقة بالعامل البيولوجي، ولهذا فإن التربية السلوكية السليمة للطفل، تضعنا أمام نتائج سليمة، وطفل سويّ، بيد أن أي خلل في هذا المجال يجعلنا أمام شخصية معوقة، سقيمة، سلبية.

وإذا كان لهذه الذاكرة مثل هذا التأثير العجائبي، على كل إنسان بشكل عام، فإن دراسات علم النفس عندما تتوجه إلى تحليل أية شخصية في مختبرها الخاص، فهي تحاول الغوص في أعماق تجربة الطفولة بالنسبة إلى هذه الشخصية، لتعود إلى جملة الأحداث الأكثر بروزاً في حياته، لتربط بين واقعها، وسلوكياتها، وأفعالها، وهاتيك الأحداث، التي تظل دائمة الهيمنة عليها، كي تتوصل إلى النتائج اللازمة في مجال التحليل النفسي. ولعل دراسات علم النفس، غدت الآن قادرة على استقراء سيكولوجيا أي مبدع، من خلال تحليل ما تركه من أثر أدبي وفني. 

ويجد المبدع، فناناً كان، أم شاعراً أم كاتباً، في مثل هذه الذاكرة الطفلية، عالماً خصباً، لا غنى له عنه، في لوحته، أو قصيدته، أو نصه السردي، لاسيما أن في ثناياها المادة الأولى التي يمكن استثمارها على أروع شكل فني، فيما إذا أحسن تناولها، وتوفرت لديه إمكانات التقاطها، وتوظيفها الجمالي والدلالي، حيث ثمة نوستالجيا دائمة لدى المبدع، للعودة إلى مرابع طفولته، ونبش أعماقها، واستلهامها، لاسيما أن لإرث هذه الذاكرة قوة جذب عظمى.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني