fbpx

دور المثقف في زمن الكوارث

0 258

درء الألم عن طفل ما أهم من أي نص إبداعي لأعظم كاتب في العالم.

ما زلت أتذكر، تلك الحكاية الشعبية “الكردية” التي رواها لي شخصٌ مسنٌّ – رحمه الله – قبيل وفاته، بسنوات قليلة، وهو يردُّ علي عندما قلت له:
وأخيراً فإن موقف فلان كان شجاعاً…!
إلا أنه رأى بأن الأمر ليس كما أقول، ولقد كان مطلوباً منه – أي من ذلك الشخص الذي حدثته عنه – أن يفعلها قبل ذلك، وقد تأخر كثيراً جداً، ثم راح يسرد لي حكاية جد مثيرة، أذكر – هنا – ملخصها وهو أن قافلة من الحجاج، أو التجَّار، استعانت بشخص عملاق، قوي، شجاع، ودفعت له الكثير كي يحميها من قطاع الطرق، وحدث ذات مرة أن تعرَّض للقافلة عدد كبير من قطاع الطرق الذين سلبوا كل من في القافلة أموالهم، ومقتنياتهم، وملابسهم، بمن فيهم ذلك الشخص القوي الشجاع. وعندما سأل زعيم اللصوص من قائد قافلتكم هذه؟ فأشاروا إلى العملاق نفسه، فطلب منه أن يتعرى، وراحوا “……” يعتدون عليه، واحداً تلو آخر، إلى أن بلغ عدد المعتدين عليه تسعة وتسعين شخصاً، وهو لا مبال، مستكين، مستسلم، إلا إنه ما إن أقبل القرصان المئة، حتى انتفض، وأصدر صوتاً كزئير الأسد، ارتجَّ له المكان، ولكمه ليرميه أرضاً، ويلتقط سيفاً، ويبدأ بقطع رؤوس هؤلاء واحداً واحداً، كي يتنفس من حوله الصّعداء، بعد أن لاذ بعض من تبقى من قطاع الطرق بالفرار، تاركين وراءهم ما سلبوه من القافلة، ليرتدي هذا العملاق ملابسه، ويشعل سيكارته، ينفث دخانها، وهو يقول لمسؤولي القافلة:
هلا رأيتم بأعينكم كيف دحرتهم؟
وهنا اقترب منه أحدهم ليواجهه قائلاً:
من أين نأتي لك في كل مرة بتسعة وتسعين قاطع طريق “….” يعتدون عليك، كما تم اليوم، حتى تنتفض، وتزأر، وتواجه ذا الرقم مئة، وتقول:
ألهذا الحدِّ بدأتم تستمرئون الاعتداء علينا؟ ثم تكسر قمقم جلدك المرفوض وغير المفهوم، وتهزم قطاع الطرق..
لكم وددت، لو أنني وثقت تلك الحكاية – كاملة – بتفاصيلها، المشوقة، كما سمعتها، من مصدرها، فلقد كانت جد جذابة، جد مؤثرة، ذات دلالات هائلة، وهي تكاد تطبق على بعض أولئك الذين لا يبالون بما يجري من حولهم، ويرون أن أسباب الذَّود عن الكرامة لما تكتمل، إذ إن من لا يتأثر – في نظري – بوخزة غادرة لئيمة – لن يتأثر البتَّة بطعنة سيف بتَّار، ولا يمكن إدراج حالة مثل هذا – البطل – إلا ضمن حالة الشذوذ واللامبالاة، بل إن ما يحدث أن هناك من لا يبالي حتى بالمنتهك ذي الرقم مئة ومن بعده!
لنعترف جميعاً، أن بعض مثقفينا لم يؤدوا أدوارهم البتة، ولعلَّنا نستطيع أن نضع مقياساً هنا، وهو من هم الذين يتبنون قضية أهلهم، من دون أن يكون ذلك مقابل منفعة ما: رتبة وهمية، أو وظيفة مأجورة، إلا بالنسبة إلى هؤلاء الذين لطالما كانوا صوت أهلهم، قبل الثورة وما بعدها، ولم يتغير عليهم أي شيء، في سياق تبنيهم لمهمتهم السامية والإنسانية، قبل أي اعتبار آخر.
لا يزال بعضنا يرى في – الثقافة مجرد وسيلة “استثنائية” “فيتوية” للتكسب، من دون النظر إلى الثقافة ككل: ما الذي ينبغي عليه أن يقوم به عبر هذه الأداة لمجتمعه، لهذا فإننا لنرى التفاف المثقف حول السلطوي، ولو الأمي، والائتمار بأمره، وتنفيذ ما يريد، ليكون يده اليمنى في ذلك – ولو خفية – لقاء ما يصله من المعلوم أو المجهول، المادي أو المعنوي، ما ينقص من شأنه نفسه، إذ ثمة من يقبل أن يكون مجرَّد مؤدِّ لدور ذلك الحجل الموقع بسربه، نزولاً عند نزوة صياد عابر، ولقد كشفت مرحلة ما بعد الثورة السورية عن كثيرين من هذا الأنموذج الذي يعدم خطابه الثقافي والجمالي، مهما علا شأنه!
ومن عجب أن من بين هذه القلَّة التي ترهن نفسها، وخطابها، وتاريخها للسياسي من يبدي حساسية تجاه نظيره المثقف، صاحب الرأي، ليواجهه، حتى من دون أي سبب، ولو كان ذلك انطلاقاً من عدم رضاه على لون عينيه، أو تسريحة شعره، أو حتى مجرَّد مفرد نقدية في إطارها الصحيح، عبر اللجوء إلى العنف، وقد يكون الأمر في أقصى درجات “القماءة” والقبح عندما تكون ممارسة هذا العنف في مواجهة الخطاب الصائب. الخطاب الذي فيه دفاع عن كرامته هو نفسه، قبل سواه، وهذا – تحديداً – ما تسبب في إيجاد شرخ كبير في حياتنا اليومية، أدى إلى تقسيم النخب الثقافية، ومن حولها، بل والمجتمع برمته.
المثقف المرتبط بأهله، ضمن رؤية صائبة لدورة: الماضي – الحاضر – المستقبل، التواشجية، أمامه شبكة مهمات متكاملة، لا يمكن إلغاء أي منها، إلا وظهر ثمة خلل كبير في أدائه لما هو مطلوب منه، وبخاصة، على صعيدي: ترجمة الرؤى، فمثلاً أية قيمة لنص إبداعي يدافع عن القيم السامية، والجمال، وصاحبه يتمرَّغ في وحل الواقع ويدافع عن قاتل، أو دكتاتور، أو لص؟ أجل، إن قراءة النص بتجرد عن الناص أمر ضروري، في حالات الترف، ولكن النص ذا الرؤى الإنسانية لا يستطيع تطهير كبائر خطايا صاحبه، إن كانت فيما يتعلق بالموقف من ثنائية: المستبد – الدكتاتور – القاتل/الضحية، بل لا يمكن أن يصدر عن هكذا ناص إلا نص مزيف، باهت، مصطنع، ملفق، بلا روح، وإلا فهل يمكن أن يقدم لنا جلاد يتلذَّذ بتعذيب ضحاياه، إبداعاً تسيل خلاله دموعه على ضحيته!؟
لست أفهم الكتابة الشجاعة إلا ممارسة حياتية شجاعة، فلا يمكن أن نكون أمام نص جمالي، في زمن الحرب، أو الكوارث الطبيعية، ينصرف خلاله صاحبه إلى تناول قضايا لا أهمية لها، متعامياً، متصامماً، متباكماً أمام مأسويات واقعه: صياغة أو إعادة إثارة الأسئلة، في لحظة إطباق الخطر أنيابه على أطفاله، أو أطفال جيرانه، أو صرخاتهم تحت الأنقاض، أو حتى أنين جوعهم، بل إنني لأرى بأن الانشغال بأي منجز إبداعي عظيم، من قبل أي منا، في لحظة اشتعال النار في منزله جريمة كبرى، وإلا، فلمن سينجز هذا الإبداع إذا أكلت السنة النيران أسرته وجيرانه؟ بل إن لحظة الانشغال بمثل هذا – الإبداع – يعدُّ تواطؤاً من القتلة والمجرمين أنفسهم.
لعلَّ بعضهم يرى ثمة تطرفاً في مثل هذا الموقف، لاسيَّما من قبل من حاولوا أو يحاولون عزلنا عن إنسانيتنا، وعطبها، وعزل النص عن روحه. عن امتدادته الرُّوحية، عن أبعاده المتوهجة جمالياً/ دلالياً، وهو مشروع مخادع، أثناء حلول الأزمات الكبرى، بل وحتى الصّغرى منها، ولو كانت دمعة عين طفل. أجل، إن الناص إذا استطاع في زمن إنتاج نصه نزع شوكة من أصبع طفل، على حساب إنتاج هذا النص – عندما لا يكون ثمَّة أحد سواه أثناء وقوع هذا الحدث العابر بنظر بعضنا – فإنني لأرى ذلك جد ضروري، لأن غاية الإبداع – صناعة المتعة – بالإضافة إلى دلالاته التي لا يمكن أن تكون مؤثرة كما هو مؤثر مجدٍ تدخل الناص بنفسه من أجل وضع حد لألم إنساني، أي ألم إنساني.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني