د. أيمن دعبول.. سنوات الحرب ابن سينا
خمس سنوات كنت قريباً منه بحكم عملي معاوناً للمدير العام (الدكتور أيمن دعبول)… منذ 2011 حين بدأت الحرب في سورية.. ورويداً رويداً.. توسعت دائرة النار.. لتجد (مشفى ابن سينا) نفسها فجأة وسط الحريق إذ تقع على الطريق الواصل بين دوما وعدرا في “تل الريحان”… وغير بعيد منها يقبع (سجن عدرا المركزي)…
هذه الطريق أصبحت خارج الخدمة.. وصار لِزاماً على القادمين أن يسلكوا طريق الأوتوستراد، ليصلوا المشفى. وباشتداد أُوار الحرب غدت هذه الطريق أيضاً على درجة عالية من الخطورة… لتظهر خلف المرتفعات طريق بديلة ثالثة.. هي “طريق التل”.. كانت دوريات الشرطة التي ترافق المرضى كالعادة من محاكم دمشق إلى المشفى.. تتجنب ما أمكن هذه المهمة الشاقة… فقد كانت الطرق غير مأمونة بسبب القناصة الذين ينتشرون في الحقول والمباني القريبة.. وكان مألوفاً أن يقع ضحايا من جرحى وقتلى بين حين وآخر..
أما في المشفى وماحولها.. فقد كان الوضع أشد خطراً، خصوصاً بعد أن اتخذت (وحدات من الجيش) من المشفى موقعاً استراتيجياً.. للرد على هجمات المسلحين… فكانت القذائف تنهال عليها ليل نهار.. والرصاص يحاصرها من كل حَدْبٍ وصَوْب، فيصاب، مَنْ يصاب، وينجو من ينجو..!
في مسلسل الرعب اليومي هذا.. واصلت “ابن سينا” دورة الحياة.. وبقيت تقاوم الموت والدمار بفضل ربّانها الحكيم.. (الدكتور أيمن دعبول) وخلفه طاقم المشفى بما تبقى من أطيافه من عمالٍ وممرضين وأطباء..
وزادت الأعباء عليها.. بخروج مشفى ابن خلدون من الخدمة في حلب..
كثيراً ما كنا نأتي إلى الدوام صباحاً بسيارات المَبيت، فتمنعنا الحواجز العسكرية المنتشرة على مفارق الطرق من مواصلة السير بسبب القصف الشديد. فكنا ننتظر، حتى تهدأ الأمور… وفي أحيان كثيرة كنا نُضطر للالتفاف من طرق فرعية، ليست آمنة.. لكي نصل المشفى… وكان خلف كل هذا الإصرار.. “الدكتور أيمن” الذي كان يمضي أمامنا قُدُماً.. غير هيّابٍ، فنمضي خلفه. والقذائف تتساقط حولنا. كم من مرة كان علينا أن نترجّل من سيارات المشفى، ونخوض في بِرَك الماء و الطين، وعلى بعد أمتارٍ قليلة من باب المشفى المرصود برصاص القنص، نحتمي بالسواتر الترابية في انتظار إشارة الحَرَس… لننطلق راكضين.. وأيدينا على قلوبنا حَذَر الموت..!!
وأما من تفوته سيارات المبيت، أو يأتي كالعادة بوسائل المواصلات العامة، فإن معاناته تتضاعف، خصوصاً حين يجري تفتيش الركاب والتحقق من هوياتهم (التفييش) عند الحواجز الكثيرة.
عانت ابن سينا كل صنوف المعاناة في زمن الحرب، من نقص الوقود، والطعام، والخبز، والأدوية، ونقص الكادر الطبي، وبقيت رغم ذلك تناضل من أجل البقاء وسط رائحة البارود والدمار! وكان المدير العام يقود (كتيبة الإنقاذ) هذه بشجاعة نادرة وتفانٍ منقطع النظير.
ولأن الكثير من طاقم ابن سينا كانوا من سكان “ريف دمشق”، فقد نالوا القسط الأوفر من لظى هذه الحرب الطاحنة. منهم من ترك بيته يحترق وجاء ليقوم بواجبه، وصدره يعتصره الألم، ومنهم من فقد ولده، أو أباه، أو أخاه، ومازالت دمعته ندية في عينيه، وبقي يعمل، ومنهم من جُرح، ومنهم من فقد حياته. ومنهم.. ومنهم..
كثير عليّ أن أسرد، ولو فصلاً يسيراً من الحكاية الأليمة.
لقد جرى الحديث مطوّلاً في وزارة الصحة.. لنقلِ المشفى إلى مكان آمن.. ولكن بدون جدوى..
فمن سابع المستحيلات العثور في تلك الظروف على مكان كهذا، يتسع لقرابة سبعمئة مريض مقيمٍ.. وفي الوقت نفسه كان البقاء ضَرْباً من الجنون.!
ففي الوقت الذي كانت تعقد فيه مؤتمرات الصحة النفسية بإشراف المنظمات الإنسانية في فنادق الشيراتون والميريديان وغيرها..
كان هؤلاء الجنود المجهولون ومعهم الدكتور أيمن، بصمتٍ وتواضع يواجهون الموت يومياً على خط النار بصدور عارية وأيادٍ عزلاء.
يقيناً.. أشهد أنه لو لم يكن هذا الرجل بيننا مُوجّهاً ومقاتلاً بعزيمة لا تلين، لأغلقت المشفى أبوابَها، ولكان آلاف المرضى داخلها وخارجها عرضةً للموت المجاني السهل، وهذا ما حدث حقاً لكثير منهم حين غادروا المشفى، أو تَعذّر إيصالهم، فوجدوا أنفسهم في مرمى النيران بلا حول أو قوة.
كان هذا الرجل عنواناً للتحدّي والمكابرة، وربما العناد أحياناً، ليمضي في سبيل هدفه يسأل ويستفسر ويتابع بدَأَبٍ عجيب كلَّ صغيرة وكبيرة. وما من همّ يشغله سوى المشفى، يتفقدها ليل نهار. يأتي أوّلنا، ويغادر آخرنا.
ورغم كل هذا لم يتنازل الرجل عن أناقته المعهودة، وروح الدعابة الحاضرة لديه.
كنا نجتمع في مكتبه أحياناً، وكأنَّ على رؤوسِنا الطير، نتعجّل إنهاء الاجتماع خوفاً من رصاصة طائشة أو قذيفة هاوَن لاترحم. ذلك أن مكتبه في الطابق الثاني يطلّ على جهة البساتين الخطيرة. إلا هو، فإنه يبقى بيننا واثقاً رابط الجأش، يبسط أوراقه، يستمع، ويحاور الجميع ببصيرة نافذة، وخبراتٍ جامعة، وذاكرةٍ لاتَخيب.
ابن سينا هي ملحمة فريدة من نوعها. حين شاء القدر لهذه البقعة المنسيّة المنبوذة على أطراف دمشق أن تكون في قلب الطوفان.!
فلا أظن أن مشفى نفسياً مرّ عليه من صنوف الأهوال والخطوب مثل ما تعرضت له ابن سينا.
ورغم ذلك فقد شقّت طريقها في بحار الظلمات، ووصلت بقاطنيها من الأرواح البريئة إلى شاطىء الأمان.
هذا الرجل، ومعه كتيبته الفدائية، خاضوا حرباً ضَروساً ضد الموت.. في مَعقِل الموت نفسه.!
لن تكفي هذه الكلمات الفقيرة لتصفَ هول ما حدث وعظمته. لن تكفي التحيات والإشادات ولا الأوسمة كلها.
وفيما التاريخ سيرقص لاهياً على جماجم الموتى ودم الأبرياء، فإنك أيها الحكيم (دكتور أيمن دعبول) وأنت جرّاح الأعصاب الماهر – دون مبضع الجرّاح هذه المرة – سطّرتَ أعظم فصول الطبّ الإنسانية، حربٌ ضد الحرب.
كفاحكم في ابن سينا سيرة بطولة قل مثيلها، جديرة بأن تروى.
لن يمضي أحدٌ أبداً بمثل هذا الفَخَار وهو متوّج بالغار، كما أنتَ وصَحْبك.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”