fbpx

خطاب الكراهية والمواطنة الانتقاليّة والجماعات السياسيّة في سوريّة

0 301

برز خطاب الكراهية في سياق الحرب الدائرة في سوريّة وعليها. ولكن حتى يتراجع هذا الخطاب لا يكفي إيقاف الحرب فحسب، بل لا بدّ من تراجع الرابط الإسلامي والقومي والطائفي بين أعضاء الجماعات السياسيّة لصالح رابط وطني. ويتعيّن على هذا الرابط الوطني أنْ يكون على مسافة واحدة من الأفراد بالمواطنة، ومن الجماعات السياسية بـ”المواطنة الانتقاليّة”. بحيث يصبح ولاء الأفراد والجماعات السياسيّة لهذا الرابط أساساً.

أقصد بخطاب الكراهية hate speech الكلام، المسموع والمرئي والمكتوب، الصادر عن الجماعات السياسيّة السوريّة تجاه بعضها البعض، والذي يساند إيقاع الأذى بالجماعات الأخرى ويحرض على العنف والعدوان عليها بأي شكل كان. وسواء صدر هذا الخطاب من جماعة كبيرة تجاه جماعة صغيرة أو بالعكس فتصنيفه هو خطاب كراهية.

كما أقصد بالجماعات السياسيّة كلّ جماعة تتخيل رابطاً مجرداً، إسلاميٌ كان أو قوميٌ أو طائفيٌ، بين أعضائها الذين لا يعرفون بعضهم البعض وجهاً لوجه بالمجمل. كما تتخيّل أيضاً حدوداً جغرافيّة وسيادة على أعضائها وإقليمها. ومثال هذا هو الجماعة القوميّة، كالعربيّة والكرديّة، والجماعة الطائفيّة مثل السنة والعلويين والدروز والشيعة… إلخ. فالجماعات السياسيّة إذاً تضم الجماعات القوميّة والإسلاميّة والطائفيّة. وكلّ جماعة من هذه الجماعات تسعى إلى تحصيل أكبر سلطة وأكبر ثروة على حساب الجماعات الأخرى أو تسعى لقيادة الجماعات الأخرى في أمة أو قوميّة واحدة.

وأخيراً أقصد بالمواطنة الانتقاليّة المساواة في حقوق هذه الجماعات السياسيّة بالسلطة والثروة؛ بحيث تكون جميع الجماعات السياسيّة على مسافة واحدة من رابط الوطنيّة السوريّة بوصفه أقل من قومي وإسلامي وأوسع من طائفي. فالمواطنة هي حقوق متساوية للأفراد السوريين بينما المواطنة الانتقاليّة هي حقوق متساوية للجماعات السياسيّة؛ وذلك للمزاوجة بين ولاء الأعضاء بالولادة لجماعة سياسيّة، وبين ولاء الأفراد بالإرادة الفرديّة لوطنيّة سوريّة جامعة.

ويتأسس خطاب الكراهية على الشعور بحب الأمة العربيّة أو الأمة الإسلاميّة أو القوميّة الكرديّة أو الجماعات الطائفيّة من جهة، ومن جهة أخرى يتأسس على الشعور بكره الأمم الأخرى أو القوميّات الأخرى أو الجماعات الطائفيّة الأخرى. فـ”الشعور هو دوماً شعور بشيء”. شعور الحب عند أعضاء الجماعة السياسيّة يتخذ موضوعاً له من الجماعة نفسها. ويتعيّن في الولاء للجماعة والتضحية بالنفس دفاعاً عنها. بينما يتخذ شعور الكراهية من الجماعات الأخرى موضوعاً له. ويتعيّن في خطاب الكراهية للجماعات السياسيّة المختلفة. ومن الطبيعي أنْ يسود خطاب الكراهية في سوريّة بعد الرعب الذي وقع ويعرفه الجميع. فنحن لم نحقق التغيير الديمقراطي حتى الآنْ ولم نقم بمراجعة سلوكنا السياسي طوال تسعة أعوام ولم نحقق العدالة للضحايا.

إننا نجد خطاب الكراهية هذا قائماً بين العرب والكرد، بين السنة والشيعة، بين السنة والعلويين، بين الحوارنة والدروز… ويتغذى هذا الخطاب من السياق الحاليّ المتجسد في: سقوط الدولة القطريّة التي أخضعت السوريين، وتراجع الولاء والشعور تجاه رابط الوطنيّة السوريّة، وفشل القوميّة العربيّة في الهيمنة على سوريّة، وفشل القوميّة الكرديّة بالانفصال، وسقوط الدولة الإسلاميّة التي أرادت إخضاع العالم فضلاً عن السوريين، وبروز الجماعات السياسيّة المتناحرة فيما بينها بالتوكيل الدولي. وفوق هذا، يتيح الإنترنت تفشي خطاب الكراهية بشكلٍ سرطاني، كما يتيح تعميم الرابط التخيّلي بين أعضاء الجماعة الواحدة الذي يؤسس للتعاون فيما بينهم والتضحية بأنفسهم.

ومن هنا نجد الآن، أنّ السوريّين يولدون ضمن جماعات أهليّة وشائجيّة، ولكنها سياسيّة، ويُعرّفون بوصفهم أعضاءً في تلك الجماعات وليس بوصفهم أفراداً في مجتمع أو مكونات اجتماعيّة تشكِّل تنوع المجتمع كما يعتقد البعض. وهكذا، فهؤلاء الأعضاء يتعرفون إلى جزء كبير من وظائفهم ومراحل حياتهم باعتبارها مشتقة من الجماعة التي يحملونها في داخلهم وتحملهم هي بدورها في داخلها. وهذا نوع من الانتماءات من تلك التي تتضمن تعريفاً للذات وولاءً شخصيّاً ومحبّة واستعداداً للتضحية. فالرابط بين أعضاء الجماعة الواحدة تقوده المحبة لا المصلحة، وهو علاقة بجماعة محليّة لا بمجتمع متنوع ومفتوح. وتستثمر نخب الجماعات هذه الظاهرة غير الفرديّة في الهيمنة على الأعضاء وتقديم نفسها بوصفها ذات حدود وسيادة. فالتحشيد للحرب والسلم يقوم على مثل هذا الرابط بالعمق. ولذلك لا نلاحظ تضحية الأفراد بأنفسهم في سبيل الكفاح من أجل نقابة العمّال مثلاً أو منظمة لحقوق الإنسان، في حين نجد تضحية الأعضاء بالنفس من أجل جماعتهم المحليّة بدواعٍ مختلفة مثل السعي لرفعة الجماعة واستمرارها أو الدفاع عن الجماعة ومذهبها وأرضها وعرضها…

على السطح، عاش السوريّون مئة ونيف من الأعوام وهم يعتقدون أنَّ بينهم رابطاً عاما يربطهم ويشدّهم إلى بعضهم البعض. كانت ما يسمى “الدولة القطرية” حينها، ولا سيّما في الخمسين سنة الأخيرة، هي الخلفيّة التي تمكِّن هؤلاء السوريّون من تخيّل ذاك الرابط والولاء له. ولكن ما تحت السطح كان هذا الرابط العام هشّاً كبيت العنكبوت سرعان ما انهار، بينما كان الرابط الخاص بين أعضاء كل جماعة سياسيّة على حدة صلباً كالفولاذ وسرعان ما برز على السطح بأشكال عدّة منها خطاب الكراهية. وفي سياق التنافس على السلطة والثروة والمكانة بين هذه الجماعات السياسيّة، نمى بشكل ملحوظ خطاب الكراهية تجاه بعضهم البعض مما نجده على المستوى الشعبوي والنخبوي أيضاً.

بعد أنْ حددنا المقصود من خطاب الكراهية ووضعناه في سياق نجد أنّ الولاء أهم من الانتماء والهوية، وأن شعوري الحب والكره هما من يؤسسان هذا الولاء أساساً ثم تستثمره النخب. ففي الحب نضحي لجماعتنا. وفي الكره نؤجج خطاب الكراهية تجاه الجماعات الأخرى. إذاً، شعورنا بالحب تجاه جماعتنا وبالكره تجاه الجماعات الأخرى أولاً، وولائنا لجماعتنا وإنكار ولاء الآخرين لجماعتهم ثانياً، وتخيّل رابط وحدود جماعتنا وسيادتها ثالثاً، يأتي في سياق تراجع رابط الوطنيّة السوريّة كإطار عام يضم هذه الجماعات السياسيّة المتنافرة ويضعها على مسافة واحدة. ولذلك لا بدّ لنا إذا ما أردنا تحجيم خطاب الكراهية أنْ نعمل على ما أسميته “مواطنة انتقاليّة” بحيث نتخذ من وطنيّة سوريّة، ووطنيّة دستوريّة، رابطاً جديداً لنا، بحيث يكون رابط متوافق مع حقوق الإنسان والقيم العالميّة، لكيلا نقع في عنصريّة وطنيّة من جديد.

لطالما طالبت بعض النخب السوريّة بالمواطنة المثاليّة وبالاندماج المجتمعي والوطني والقومي بشكلٍ مثاليّ أيضاً، ولكن لطالما كان واقع الحال بعيداً بمسافات ضوئيّة عن مثل هذه المطالب أو المشاريع. ومن هنا تنبع حيوية مصطلح “المواطنة الانتقاليّة” في ردم الفجوة بين الحلم وبين الواقع، بين المشروع وبين النتيجة.

إنّ مواطنة انتقاليّة في إطار وطنيّة سوريّة ودستوريّة غير عنصريّة، وتستحوذ على ولاء الجماعات السياسية السوريّة، تحتاج إلى لا مركزيّة سياسيّة وإقرار بالاختلاف في آنٍ. إذ أنّ التساوي بين الجماعات السياسيّة في الحقوق الثقافية كاللغة والفلكلور والدين والعادات لم يعد كافياً؛ لأن توزيع السلطة وتوزيع الثروة هو الهدف المشترك للجماعات في حين أن الأفراد ليس لديهم هدفاً مشتركاً. ولا تعني مواطنة الجماعات السياسيّة الانتقاليّة محاصصة طائفيّة أبداً، وإنما تعني الأخذ بعين الاعتبار لدورها في تقويض أي رابط وطني جامع، وفسح المجال لاتفاق الجماعات السياسيّة على مستقبل سوريّة بعقد وطني سياسي لا بعقد اجتماعي كما هو متداول.

بهذا سيساعد رابط الوطنيّة السوريّة على تراجع خطاب الكراهية. فغياب خلفية كالوطنيّة السوريّة واختفاء الولاء لها كان يقابله على الدوام حضور خلفية الدولة القطريّة والولاء لها. ولكن مع انهيار الدولة القطريّة عادت الجماعات الأهليّة إلى الرابط الخاص الذي يجمعها وإلى الولاء له. فلتكن الوطنيّة السوريّة بلغات عدة وثقافات متنوعة وإدارات محليّة مختلفة، ولكن لتكن أيضاً بمستقبل واحد وجيش واحد. فحتى الآن لا يتخيّل السوريّون، أفرادٌ كانوا أو جماعات سياسيّة ونخبٌ، دولة واحدة بلغتين أو بشعبين ويصرّون على إخضاع بعضم البعض تحت عناوين مختلفة ويصرّون مثلاً على عروبة الرئيس وإسلامه وعلى عروبة الجمهوريّة كذلك وعلى استمداد القانون من الشريعة الإسلاميّة.

في واقع الحال، ينوس السوريّون بين حدين: الأول هو حد الانتماء بالولادة كعضو ضمن جماعة سياسيّة والولاء إلى حالات محليّة. بينما الثاني حد الانتماء بالاختيار كفرد ضمن مجتمع والولاء إلى مبادئ وطنيّة وعالميّة. وبما أنّ خطاب الكراهية قائم في سياق، فإنّ السياق الحاليّ ينمّي الحد الأول على حساب الحد الثاني. ولذلك اقترح المواطنة الانتقاليّة والتي تراعي الجماعات السياسيّة بولاء أعضائها كما تراعي ولاء الأفراد لمبادئ تتجاوز الطائفيّة ولا تصل إلى القوميّة الإسلاميّة. فالمواطنة الانتقاليّة تسمح بنمو الوطنيّة السوريّة وتحِدّ من تغول قوميّة عربيّة أو كرديّة على الجماعات الأخرى. كما تحِدّ من تغول الجماعات الأخرى مثل السُنّة والعلويين والدروز… وتحِدّ أخيراً من خطاب الكراهية.

مساهمة الكاتب شوكت غرز الدين في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع شوكت غرز الدين.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني