fbpx

خارج السرب/داخل لبنان

0 238

ينطوي مقال اليوم على حزن مركّب، وذلك لأن فاجعة الرحيل المبكّر للأديب تعادل الاكتشاف المتأخّر لأدبائنا الأحياء الذين نلتفت إليهم – في معظم الأحيان – بعد رحيلهم عنّا بوقت طويل.

وغالباً ما نلاحظ أهميتهم بعد أن تُعرف إبداعاتهم عبر الآخرين.

يعيش الأديب بيننا وحيداً غريباً يجذف خارج السرب، لا ينقصه العوز، ولا يفتقر إلى ملامسة استجداء المعاملة الحسنة والاحترام من جيرانه وذويه ومواطنيه، وبخاصة من بعض موظّفي دوائر الدولة المختلفة، الذين ما إن يعرفوا أنه “مثقف” يحترف الكتابة حتى يتبادر إلى أذهانهم أن “العمل ليس عيباً” ومع ذلك لا يعفونه من الرسوم “المستورة” التي يبتدعونها في كل المناسبات. 

ويبقى المثقف “خارج السرب” يناشد الآخرين استعادة القيم الأصيلة في تراثنا واستعادة احترام الإنسان لأخيه الإنسان. وقد تمتد مأساة الممعن في غربته فيصطدم بأمثاله من المثقّفين الذين قرروا السباحة مع التيار فيصبح غريباً مغترباً يقاسي الأمرّين.

هذه الصورة القاتمة للمعاناة المركبة تمّحي بين حين وآخر وتخلي مكانها لقليل من الفرح وكثير من الألق حين يغدو المثقف مسؤولاً، والمسؤول مثقفاً.. حينذاك يستعيد العلم مكانته وتبدأ بوادر ارتفاع شأن الوطن الذي يعلي من شأن مواطنيه ويحرص أفراده على إشاعة الكرامة بينهم، فيغدو العلم والكرامة صنوين لا يفترقان.

لقد شهد بلاط سيف الدولة تكريماً للعلماء والأدباء والفنانين حتى غدت حلب محجّاً لمثقّفي العالم، فارتفع اسم سيف الدولة عالياً وازدهر العلم والأدب والفن بما لقيه أصحابه من تكريم.

تلك الصورة التراثية تخفّف أحزان أصحاب الكلمة، كما يُعاد إليهم الأمل أن العالم ما يزال بخير حين تتكرر اللقاءات وتثمر بين المثقف والسياسي.

ومن تلك اللقاءات المجدية ما نلمسه بين حين وآخر في بيروت، التي بقيت فترة طويلة عاصمة للثقافة العربية، وما تزال – بعد معاناتها – تحاول استرداد دور الريادة الثقافية بما يتوفر فيها من حرّيات نسبية، وبالحوارات المتواصلة بين المثقّف والسياسي. 

إن ما تشهده الساحة اللبنانية اليوم يدلّ على أصالة التفكير الحر الذي يتعالى على كل المحاصصات الطائفية التي فرضتها دول المحيط على لبنان الحر. لبنان الذي ملأ الشوارع بصرخته الشاجبة ضد كل اللصوص الذين تسلّقوا جدار السلطة بغفلة من المدنيين المسالمين.

الحوار، هنا، بدأ علنيّاً بعفويته التي لم تتجنب كيل الشتائم لتجار السلطة مطالبين برحيل الجميع (كلن يعني كلن) حكومة ورئيساً وأحزاباً، كي يستعيد لبنان مكانته ويواصل نشر الفكر الحر كما كان قبل الوصاية عليه من دول الجوار.

ربما لهذا فجّروا الميناء، أرادوا بقر خاصرة بيروت العصيّة، لكنّهم لم يفهموا بيروت.

بيروت امرأة زئبقية شاسعة.. تستعصي على التأطير والقولبة.. تستأثر بأرواح محبّيها ولا تسلم قيادها أحداً.

في كل مرة أحج إليها تبهرني بجمالها وصراعاتها وأحزابها وكثافة ينابيع الثقافة فيها. 

يتداخل ليلها بنهارها كزوجين يفيضان بالعطاء..

ويخاصر بحرها المديد جبالها التي تحضن بيوتاً يقبع فيها عمالقة حيث ترسم ديانا غادة السمان وهي تكتب عن خواتيم أنسي الحاج وهو يستمتع بشدو فيروز. 

وتزدحم بيروت لتنتج فتفيض ينابيعها نزار قباني ومحمود درويش وماجدة الرومي.

بيروت معرض كبير لتلاقي دور النشر بالملاهي، والمساجد بالكنائس، وهي مرتع المفكرين وملجأ المعذبين في الأرض.

بيروت جربتني فاقتحمتها في عزّ الصهيل فتحديت الموت فيها في الثمانينيات وأنا مصرّ على الدراسات العليا فيها، وتحت القصف كنا نناقش أهم الموضوعات الفكرية والقضايا المعاصرة. وعلى أنغام القنابل كنا نترنم بالسلام.. فيها تعلمت التفكير الحر المستقل عن النزعات الأيديولوجية المبتسرة.

ومن بشارة مرهج تعلمت كيف يمكن أن تكون وزيراً وإنساناً معاً.

صحيح أنني تجرجرت فيها من حزب إلى حزب ومن عصابة إلى عصابة، ولكنني – أيضاً – اكتشفت أن كل الاتجاهات فيها تحترم الجامعات والمؤسسات الثقافية اللبنانية ولا تأخذ المنتسب إلى إحداها بجريرة المسلّحين.

وجربت بيروت فاكتشفت طفولتي فيها حيث علمتني المحبة فصرت أحب إنسانيّة أعدائي الذين يدافعون عما يرونه صواباً..

آه يا بيروت.. إنك عاصمة الحب ومدينة الحرية بامتياز، ولهذا يحاربك الآخرون، ولهذا – أيضاً – تصمدين.

تلقّت ضربات متتالية من الكيان الصهيوني الغاصب، ومن جيش الأسد المحتل، ومن الفصائل المسلحة المتناثرة التي جعلت لياليها كوابيس. وها هي الآن تعاني من اغتصاب حزب اللات والحكومات الهشّة المتتالية؛ لكنّها تبقى صامدة بأحرارها وحرائرها، بتاريخها الثقافي العريق الذي يواجه الحريق بقلب ينبض بالمحبة والعطاء.

بيروت امرأة زئبقية شاسعة مستعصية على الفهم، ولهذا نبقى نحبها بكل تمرّدها الأليف.

واللقاء، في شوارع بيروت والساحات الرئيسة، غدا مثمراً بعد أن بدت حميميته وصراحته وبساطته، وذلك بعد اقتناع الجميع بأهميّة التعاون من أجل رفعة الوطن ورفعة الإنسان فيه. 

وفي ظنّي أن مفكّرينا السوريين المغتربين ما كانوا ليغادروا الوطن لو أنهم وجدوا السرب في مساره الصحيح، بل كانوا سيناضلون من أجل أن ينضمّوا إليه فرحين.

وإذا كان القرن الماضي قد شهد معاناة أجدادنا المثقفين، نرجو أن نكون جسراً يخفّف الوطء عن أبنائنا كي يعيشوا في رَغَد آمنين.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني