حين كنت رسالة لجهة ما.. طريق خناصر، العودة
مضت ساعتان من الانتظار المخيف، يشبه ذاك الانتظار الذي نراه في الأفلام أمام غرف العمليات مع موسيقى تصويرية تبعث على التوتر.
عاد السائق وهو يحمل رزمة من البطاقات الشخصية، وقفنا كتلاميذ في صف واحد ينتظرون نتائجهم والقلق يسيطر عليهم خوفاً من الرسوب والفشل، إلا أن النتيجة هنا أكثر صعوبة وخوفاً.
كان لسان حالنا يقول من أوتي بطاقته الشخصية فقد فاز ونجا من التهلكة، ومن لم يؤت بطاقته فقد هلك و(أمه هاوية)..
كانت أغنية “نحن رجالك بشار” عاملاً مشتركاً في جميع الحواجز التي مررنا بها.
غادرنا حاجز الراموسة بعد انتظار دام أربع ساعات ونيف، كانت هذه الأغنية بمثابة النشيد الوطني لعناصر الحاجز، معبرة عن تبعيتهم المطلقة لشخص دون وطن.
لم تمض نصف ساعة حتى بان الحاجز التالي، وقف الضابط متقدماً جنوده كأنه قادم من أفلام الرعب بهيئته ونفسيته المتعالية، التي كان يعامل فيها كل من يمر من حاجزه، هكذا كانت تسمى الحواجز، على أسماء المناطق التي تقع بها أو عناصرها الأكثر إجراماً.
أُجبِرنا على النزول من الحافلة لتفتيشها، لا أدري عن ماذا يبحثون؟
هل من المعقول أنهم يخشون أن تمر بعض المتفجرات في هذه الحافلات التي تغادر أراضيهم لأراضي “دولة الخلافة المزعومة” حينها بدا هذا الخاطر مضحكاً.
سألت رحيم متهكمة:
ولسه بتقولوا النظام مجرم؟
شوف كيف عم يفتشوا كل صغيرة وكبيرة من خوفهم لشي متفجرات تدخل لأراضي “الخلافة أو المحرر..”
رحيم مع ابتسامة خافتة، إي هم بيخافوا نموت على إيد حدا غيرن، ضميرن بيأنبهم إذا صار هيك.
ابتسمت ياسمين وهي تستمع إلينا وكانت تحاول أن تكتم ضحكتها، فالضحك على مرأى هؤلاء المجرمين جريمة لا تغتفر، تودي بصاحبها إلى المعتقل.
فجأة علا صوت امرأة ليقطع حديثنا المكتوم أصلاً، وهي تتحدث بصوت مرتفع أمام العناصر على الحاجز.
بدأت المرأة تتحدث بلهجة ملؤها الرجاء، يا سيدي مشان الله خلصوا تفتيش ومشونا ابني مريض سكري وخاف كتير وهالشي بيأثر عليه.
الضابط: ابنك مريض سكري؟ إن شاء الله سرطان الي يقبرلك ياه ويريحنا منكم.سدي بوزك أحسن ما رجعو.
تراجعت المرأة للوراء مع همسات من هنا وهناك تلومها.
قلتلك لا تحكي، واحمدي ربك ما شحطوكي.
بدت علامات التعب والإرهاق على وجه الصغير ذي الأربعة عشر عاماً، وبدأت والدته تبكي بحرقة بعدما أسمعها ذاك المسخ كلاما تمنت أن تموت بدل أن تسمعه.
بعد أن صعدنا الحافلة مع ما تبقى من أمتعتنا ومع الكثير من الشتائم والإهانات وبعض الركلات من عناصر الحاجز، صعد قائد الحاجز “الضابط” خلفنا إلى الحافلة وبدأ يتحدث بلغة كلها شتائم وكلام بذيء، يعتبر اللغة المستخدمة على الحواجز وقال بلهجته المحلية التي تدل على المدينة التي عاش فيها.
(مقلوعين هنت وياه وياها عند هدوك العر…، الدواعش..إن شاء الله بيقصوا رقابكم ويخلصوا البلد منكين ياحثالة.اسمع هنت وياه وياها بس تصلوا لعندن بتخبرون إنو جنود الأسد جايينهم ورح ندعس فوق دقونن لإخوات هالـ….)
وتابع مع ضحكة: (ولنقعدن على السيوف الي ميقطعوا روس الخلايق فيها..فهمت ياحمار يا جحش شو بدكن تقولوا..).
صمت كل من في الحافلة وأطرق الرجال قهراً وخوفاً وألماً.
همست ياسمين بأذني كلمات لم أسمعها لكني فهمتها.
كانت تتمتم إن شاء الله يا كلب بيجوا وبيدعسوا ع راسك ورقبة رئيسك.
رمقتها بنظرة لم تعجبها، فقد كنت أعي تماماً أن الطرفين داعش والنظام لا يختلفان كثيراً عن بعضهما بعضاً وأن كليهما عدو للثورة السورية.
كان هذا آخر حاجز نمر به في مناطق سيطرة النظام وعلينا أن نتأهب للدخول لمناطق سيطرة التنظيم.
طلب منا رحيم أن نسدل النقاب على وجهينا أنا وياسمين>
(يا عمي مو أنت عمي قلن هي بنت أخي ما بتحط برداية ع وشا وأنا عمها ورضيان بهدا الشي).
نظر لي رحيم وقال: من أنتم.. من أنتم..
ضحكنا على خيباتنا وحالنا الذي وصلنا إليه.
كان رحيم شارداً يدخن سيجارته وينفث دخانها من النافذة عندما التقطت له صورة دون أن ينتبه.
لم تمض دقائق إلا وكنا ندخل مناطق سيطرة التنظيم، بدأت الرايات السود ترفرف معلنةً دخولنا أراضي دولة الخلافة المزعومة، ودخول كل من في الحافلة بالإسلام، إسلام الزي والظاهر كما يريده هؤلاء.
أُسدلت الستائر على وجوه النساء وبدأ الرجال بالتسبيح والتظاهر بالخشوع المهيب استعداداً لصعود عناصر التنظيم للحافلة.
وضع رحيم العطر على يديه تحسباً لأي عملية فحص لرائحة الدخان.
أخرجت هاتفي وطلبت من عمي أن ينظر فيه، كانت صورته وهو ينفث دخان سيجارته توثق ما ارتكبه من قبيح فعل، أصبح لونه الأبيض ضارباً للحُمرة.
رحيم: امسحيها وبلا خفة دمك
ياسمين: ولا يهمك يا عم، عندي صورتنا بالمطعم وهي كاشفة عن وجهها بفزعلك أنا.
لك يا غبية وجهك بلزق وجهي، يعني اتيناتنا تحت سيف واحد سوا.
ياسمين: بلهجتنا المحلية، يعدمني ياك، ضبي موبايلك، إي.
وقفت الحافلة وكان الجنود قد أحاطوا بها وبدأت التكبيرات تتعالى، صعد أحدهم إلى الحافلة وطلب البطاقات الشخصية.. تفاجأنا من طلبه هذا، فلم تجرِ العادة أن يطلبوا البطاقات الشخصية.
– عمي قولتك فتحوا فرع تفييش عند الدولة؟
رحيم: كلشي متوقع.. ما بقى استبعد شي عن أي طرف.
– لا عمي.. الجيش الحر غير كل الأطراف..
رحيم: الله أعلم..
أحدهم كان شاباً في بداية العشرين تعرف من لهجته أنه من بلاد المغرب العربي، لحيته بالكاد خطت رسمها عبر شعرات قليلة متباعدة، كان يهم بجمع البطاقات فاشتم رائحة السجائر التي كانت عالقة بمقاعد الحافلة قبل صعودهم..
أمسك بيد رجل بالخمسين من عمره وقال له أتسمح لي أن اقبل يدك يا عماه فأنت تذكرني بأبي الذي اشتقت إليه.
رأيت ابتسامة ياسمين من تحت نقابها ونظرت إلي نظرة عرفت ما تريد أن تقول دون أن تنطق به.
انحنى الفتى وقبل يد الرجل، وضحك بطريقة أقرب للقهقهة، وقال مخاطباً الرجل كنت عم تدخن يا عدو الله
ونزل مسرعاً وأخبر المسؤول عنه.
صعدوا مهرولين إلى الحافلة وطلبوا من الرجل النزول، تجمدت الدماء في عروق الرجل وعروق كل المدخنين.
نظرت بطرف عيني إلى رحيم ومن تحت معطفي أمسكت هاتفي وحذفت الصورة التي التقطتها له.
كنت حتى حينها أظن أن بعض ما يقال عنهم بهذا الخصوص مبالغ به حتى شهدت ذلك بأم عيني.
ساقوا الرجل إليهم وتركوا جمع البطاقات ولم يكملوه.
بعد مدة قصيرة صعد أحدهم ليبلغنا حكمهم بأن الحافلة ستحتجز لمدة ساعتين بسبب عثورهم على سيجارة بحوزة الرجل.
همست لياسمين منيح مو باكيت، كانوا حجزونا يومين فأجابتني اتخيلي لو كروز، يا لطيف يا لطيف.
أحد الركاب حاول أن يناقشهم بمنطقهم.
يا إخوان معنا في الحافلة طفل مريض سكري وأخت حامل ورجل مسن، وقال تعالى ولا تزر وازرة ورز أخرى.
عاقبوا من وجدتم معه السجائر واحتجزوه عندكم ثلاث ساعات إن أردتم واتركوا الحافلة تسير.
أجابه الشاب عنصر التنظيم: نعم نعم ولا تزر وازرة وزر أخرى.. لذلك اصمت بدل أن أنبش جوالك وأشياءك واستخرج لك منها وزراً أقص به عنقك.
الساعتان أصبحتا ثلاثة وأي كلام أو اعتراض ستبيتون ليلتكم هنا.
على الرجال النزول أما النساء فإياكن أن ألمح واحدة منكن. نزل الرجال وبقينا نحن النساء في الحافلة والستائر مسدلة على وجوهنا.
عاد الشاب وطلب من الطفل المريض بالسكري النزول لكن والدته رفضت وأخبرته عن مرض ابنها.
غاب الشاب قليلاً ثم عاد وطلب من الطفل النزول والجلوس في مكان السائق.
سألتُ الشاب عن سبب وضع الطفل بعيداً عن والدته.
فأجاب بأنه قد بلغ الحلم ولا يجوز أن يبقى بين النساء وفي المقدمة سيكون معزولاً.
أيوا.. يعني هدا الحاجز صار محرم..
تابع الشاب أما السبب الثاني حتى لا يسمع الكلام والسؤال الغبي هذا. ولولا أنك امرأة لأجبتك بطريقة أخرى.
“الحمد لله على نعمة إني حريمة”
مرت الساعات الثلاث ثقالاً على الجميع، وعاد الرجال بعد أن تلقوا درساً في الدين الجديد.
انطلقت الحافلة من جديد، وبدأت التحليلات عن سبب طلبهم للبطاقات وهل يُعقل أن ما يُشاع عن أن التنظيم صنيعة النظام صحيح!. الكثير من التساؤلات لم يجرؤ أحد على الإجابة عنها، وتساؤلات أخرى لم يجرؤ أحد أن يطرحها.
حاجز آخر لرجال التنظيم أمامنا.. صعد إلى الحافلة هذه المرة رجل مقنع (وهذا يعني غالباً أنه من سكان المنطقة).
أنتم الحافلة التي توقفت لأن فيها رجلاً من قليلي الدين وعديمي الأخلاق، (يقصد هنا الرجل الذي كان يدخن) لقد انشغل الإخوة بما حصل ونسوا أخذ بطاقاتكم لذلك علينا أن نجمعها، وبدأ بجمع البطاقات وهو يقرأ، اخترين، مارع، صوران، مارع، مارع، هنانو، مارع، حريتان، عندان، مارع، مارع، طريق الباب، مارع، مارع.. غاب قليلاً ثم عاد وطلب من الرجال النزول.
كانت مارع أولى بلدات الريف الثائر ضد النظام وهي بلدة الشهيد عبد القادر الصالح وكان النظام قد اقتحمها قبل أن تثور حلب وأحرق بيوتها كغيرها من قرى الريف الشمالي. كما حاول التنظيم اقتحامها عدة مرات وفشل في ذلك، والعداوة بين (الموارعة) والتنظيم لا تخفى على أحد.
نزل الرجال واصطفوا بخط مستقيم، ثم قاموا بعزل (الموارعة نسبة لمدينة مارع) عن البقية وطلبوا من البقية التراجع للخلف ومن رجال مارع أن يجثوا وقال لهم المقنع (تشاهدوا على أرواحكم) ورفع أكثر من داعشي سيفه.
لم أكن أصدق ما يحدث، هل أنا حقا في طريق حلب – الريف الشمالي أم أني في أحد أفلام هوليوود أو بإحدى حلقات مسلسل ظواهر مدهشة الذي كنت أستمع إليه كل يوم إثنين على الراديو.
هل حقاً سيقطعون رؤوسهم؟ أهذه هي دولة الخلافة التي ينشدون؟.
كانت النساء تبكي في الحافلة وأم الصغير تطلب منه أن يغمض عينيه ولا ينظر خوفاً عليه من نوبة سكر قد تودي بحياته.. كانت النوافذ مغلقة ولا أستطيع سماع الأصوات ولا أعلم ما كان شعور أولئك الرجال الذين (سيقتلون على الهوية) حسب التعبير السائد.
رفع الدواعش سيوفهم وهوت مسرعة على الرصيف وبدؤوا يضحكون ويسخرون من خوف الرجال الجاثين على الأرض.
بعد دقائق فُتح باب الحافلة، صعد رحيم والرجال وكأن الطير أكل رؤوسهم ولم يكتف بالوقوف عليها..
– عمي شو صار وليش؟
شحوب رحيم وبقية الرجال كان أبلغ من أي جواب.
صعد ذاك المقنع الذي بان قبحه حتى من تحت القناع و بدأ يقذف حمم لسانه.
اسمعوني منيح.. يلي رايح منكم ع مارع بتوصلوا رسالتي لخطاب ولأبو علي الحر وتقولوا لهم (أسود الدولة) جايينكم ورح يقطعوا رووسكم ويعلقوها على أسوار مارع.
بين كل هذا الكم والخوف والتوجس همست لي ياسمين: حاسة حالي صرت رسالة (SMS).
تبسمت رغماً عني والحمد لله على نعمة الستارة التي أخفت ابتسامتي.
أخرجت جوالي من حقيبتي وكنت أحاول تصوير الداعشي عندما خطفت مني ياسمين الجوال.
ياسمين: لك مجنونة شو عم تعملي؟!
– ولاشي أنت حاسة حالك صرتي (SMS) وأنا جاي ع بالي صير (MMS) مشان التوثيق مو أكتر لأن اللي عم يصير مو طبيعي.
لقد كان ما نمر به من أحداث أقرب للخيال منه للواقع. هل هذه هي سوريا؟ كيف اختطفت ثورتنا وتقسمت بلادنا؟ من هؤلاء الغرباء بأشكالهم ولهجاتهم؟
أسئلة كثيرة كادت أن تفجر رأسي قبل أن يقول السائق أننا قد وصلنا للأراضي المحررة.
أجهش أحد الرجال في البكاء، يا إلهي إنه عبد القادر، لقد نسيناه في غمرة ما حدث.
محظوظ يا عبد القادر، لقد نسيناك وأنت بيننا حر وطليق.
المأساة الحقيقة هي أن ننسى أولئك الذين لا زالو يقبعون في زنازين الموت المؤلم عند المسوخ الحقيقين.
الراية الخضراء ترفرف، رفعت الستار عن وجهي، ملأت رئتي بهواء الحرية.
يا محلاها الحرية.
الأخت الفاضلة هناء
مقالتك مؤلمة جداً جداً ، وما يزيد ألمها أنها حقيقة لا خيال فيها
كنا نقول في الثمانينيات أن القمع والإذلال يصيب فقط من رفع صوته ضد هذا الظالم والقليل جداً ممن لا يعترض يصيبه الأذى “صدفة” ،، حتى أتى اليوم الذي تأكد لنا جميعا أن هذا الظالم المستبد لا ينتظر سبباً ليظلم كل الناس ،،، كلهم حتى لو كانوا من المنافقين إذا كانوا في مرمى سياطه وجلاديه
أما داعش فقد رأيتهم ،، لا أظنهم صنع النظام ،، بل هم مسخ مشوه وُلد من جماع قذر بين منافقين انجاس يلبسون مسوح الدين ومجرمين دوليين يحكمون حبالهم حول رقابنا …
شكراً لك .. شكراً للمقالة المؤلمة ،، فمع الألم لا بد أن يولد الأمل الجديد
ثار الشعب في سوريا للتخلص من الإستبداد والإجرام ونيل حريته والعيش بكرامة تليق بالإنسان، وأختطفت الثورة من قبل تجار الدم، وكأن قدر الشعب في سوريا أن يعيش الظلم رغم كل هذه التضحيات الجبارة التي قدمها هذا الشعب في سبيل نيل حريته. الشمس ستشرف من جديد رغم تكالب كل قوى الإستبداد والظلم. لك تحية عربية سيدة هناء وعلى الأمل نعيش.
حلوة لولا اللهجة العامية
الفصحى فيها من المرادفات مايسعفك لماذا اسرفتي في استخدام العبارات العامية .