fbpx

حاتم علي في آخر لوحة سوريّة التغريبة

0 3٬235

رحل الفنان والمخرج العبقري حاتم علي في تغريبتنا، مُسجلاً لبورصة الموت السوري رصيداً جديداً.

تاريخ مليء بالعطاء، لم يلعب بحصان تاريخي فوق حواجز التسلية والعواطف المجانية على أطباق المواسم الرمضانية، لم ينحدر بأعماله لسلعة الاستهلاك السلبي بعد تخمة العشاء، لم تسيطر عليه شركات الأزياء ومعارض أحدث القصّات، كان يعرف ماذا يريد بعيداً عن إغراءات مواسم التسابق الدرامي الذي يختلط فيه الزيت بالماء، فدخل للهوية التاريخية على حصانه بقراءة جديدة تضع المتلقي أمام مواجهة مع ذواتنا، أو بتعبير آخر: لم يسع لتقديم المعادل الموضوعي بسطحية تاريخية عقيمة ينتظر فيها – ما يُسمى بالفارس – الدخول إلى حارات مظلمة بأبواب موصدة. 

لقد شكلّ ثنائيات مع بعض الكتّاب أمثال ممدوح عدوان ووليد سيف، وقدّمت هذه الثنائيات للدراما العربية أرشيفاً جميلاً كالزير سالم والتغريبة الفلسطينية وأعمال أخرى كـ ربيع قرطبة والفصول الأربعة وصقر قريش..، إلا أن أكثرها شهرة بين المشاهدين العرب هو التغريبة الفلسطينية لما لها من خصوصية في ضمير كل مواطن عربي، وقد استعاد المدوّنون هذا العمل الضخم في نعواتهم للراحل لأنه ختم حياته في تغريبته، وقد عاشها منذ طفولته عندما نزح مع أهله من الجولان المحتلّ. لقد قدّم التغريبة الفلسطينية تلفزيونيّاً للعالم، لكن التغريبة السورية غدرت به، أو أتعبته وأعيته بوصفها الأكثر فتكاً وتعقيداً على مرّ التاريخ، فقدّمته على محافل وسائل التواصل مقتولاً آخر في قائمة التغريبة الكبرى، فترى النعوات والآراء وما فيها من الوجع السوري، والعربي عموماً، فهو مبدع خارج حدود الجغرافيا المحليّة، وقد نعته الأوساط العربية كافة، فتحولت وسائل السوشيال إلى عزاء يعبّر فيه السوريون عن خساراتهم التي تتوالى، فالموت واحد إلا أن الموت السوري متعدد منذ عقود، وأكثرها شراسة آخر عشر سنوات، فالموت السوري له هوية أخرى لا تشبه أي موت إلا في مراسم الدفن الأخير، حتى النعوة تختلف في حالة الموت السوري، لها أبجدية تذرف وطناً وشعباً بأكمله، وكل سوري في الداخل والخارج يموت ألف مرة قبل أن تبكيه وسائل التواصل أو ربما تحتفي.

لم تتوقف الرؤية النقدية لأعمال حاتم علي عند الأدوات الإخراجية فقط، بل تجاوزت القراءة السطحية لتقنيات الإخراج إلى ربطها بالهدف الفني من العمل، فحاتم علي ليس مُخرجاً للأحداث التاريخية بسرد واقع حالها، بل يقدّمها برؤية ودلالات تفوق الحدث التاريخي المغلق على زمان ومكان، فالزير سالم – على سبيل المثال لا الحصر – ليس البطل المغوار الذي يسرده الحكواتي، ويردده جدودنا كأغنية شعبية، بل جسّده ممدوح عدوان مع المخرج كدلالة سياسية واجتماعية متجذرة كحالة مرضية نحن بحاجة إلى تجاوزها، وكذلك مسلسل التغريبة الفلسطينية إذ يجسد خطاباً إنسانياً يحاول اختزال المعاناة بجملة واحدة” التغريبة” لتخاطب الضمير العربي والعالمي.

تحدث كثيرون عن أعمال حاتم علي في مجملها، وما هذا السياق لسرد وتحليل إنتاجه عبر مسيرة مضنية مذ طفولته نازحاً، ومليئة بالإبداع حتى رحيله قبل أيام. 

هنا أنعيه كأي سوري ينعي موتنا كلّنا، أنعي فيه الرجل العبقري الذي رحل باكراً، وقدّم للذاكرة الفنية أعمالاً خالدة، فعلى الصعيد الشخصي لم يسعفني الزمن باللقاء معه أكثر من مرة، وبحديث مقتضب، الرجل الرزين العميق في الإصغاء والطرح، رأيت فيه المخرج العبقري، فعرفته أيضاً كما عرفه المشاهد العربي من خلال أعماله الغنيّة، وكلنا ندرك الخسارة الكبرى التي تزداد كلّ يوم في المحرقة السورية سواء على أرضها أو خارج حدودها، فقد طالت الجميع في كل مكان قهراً ونوبات قلبية مفاجئة أو في الداخل قصفاً أو جوعاً… لم يبق لنا ذاكرة حتى لإحصاء أشكال الموت، وقد كثرت حالات الوفاة بنوبات مفاجئة في بلاد اللجوء ولعل حاتم علي ليس آخرها حتى الساعة، هو كأي سوري يحاول فهم ومعرفة الجهات الأربع لهذا الكوكب، لكنه حتماً يعرف قاتله الذي يترصّده على الأرصفة وفي ساحات الخيام.

المعذرة من روحك أيها الفنان الجميل فأنا لا أجيد الرثاء، ولا أحب منصاته الخطابية أو الإلكترونية سيما أن الطارئين في فوضى الوقت يغتالون حتى فجيعتنا، ولا أحب المشاركة في مهرجانات تأبين المبدعين، لطالما خشيت أن أقف مع الحاشية فليزمونني قبل افتتاح التأبين بأن أقف دقيقة صمت لقاتل أو لصّ أو مغتصبٍ.. يسمّونه في متنهم شهيداً. 

سينعيك الإعلام الرسمي باللغة الإنشائية الجافة ذاتها التي ينعي فيها ضحاياه كــ نزار قباني أو محمد الماغوط ونهاد قلعي وكثيراً من المبدعين.. سيصفكم الإعلام المجوّف بأنكم غادرتمونا بصمت على الرغم من صدى أصواتكم في ضمائرنا، كهذه التغريبة الموجعة فهي صامتة في إعلام القتلة على الرغم من صخبها في كل أرجاء الأرض، فهم لا يروننا إلا بكماً أو هكذا يريدوننا في مقاطعاتهم الدموية!. 

نحن ننعي بك الهوية السورية التي تتساقط يوماً بعد آخر وسط لا مبالاة أخلاقية من كل زعماء الصراع الدموي، فحوّلونا من ثورة إلى حرب سوريالية لا يفهم مأساة فوضى ألوانها إلا الفنانون الجميلون وقد كفروا بعالم لا يمجّد سوى لغة القوة والقتل والدمار، فقتلتْهم لوحاتهم قهراً كما قتلتك وأنت حائر في رسم أو إخراج لوحة لكل هذه المأساة، فحافظتَ على لوحتك السورية في ضميرك ورحلتَ، لم تكن الأول ولا الآخر طالما نيران التغريبة تتزايد وتتزايد معها القلوب المتعبة التي نعاها محمود درويش في تغريبته، تلك التي لم تجد الهوية في الحجارة، تلك التي أرادت الحياة لتحترم القيامة بعد هذا الموت، لينتهي المطاف بنا جميعاً أن نرتّب أحلامنا بطريقة أخرى وننام واقفين.

رحلتَ واقفاً ومجسداً لوحة سورية عنوانها “سورية التغريبة”، وبعد … لروحك السلام. 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني