fbpx

جمال عبد الناصر.. والحزب الشيوعي السوري

0 443

لا شك في أن ازدهار فترة الخمسينيات في سورية بُعيد الاستقلال يعود لأمرين رئيسين الأول أن معظم السياسيين هم من الوطنيين الذين ناضلوا ضد المستعمر الفرنسي منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي أي بعد فشل الثورات المسلحة (لم ينته حمل السلاح بعد الثورات الثلاث المشهورة لكنه أخذ طابع الجماعات والأفراد غير المنظمة) أما الأمر الثاني فهو عودة السياسة بعد فشل الانقلابات العسكرية الثلاثة عام 1949/1950 على أسس من الديمقراطية، ما يعني أنهم لم يغتصبوا السلطة بل أتوا عبر انتخابات ديمقراطية، (بغض النظر عن المعيار الطبقي، والضرورة الموضوعية التي تقتضي آنئذ بتصفية بقايا الإقطاعية) واستمروا على ذلك النهج مشاركين القوى السياسية الموجودة سواء عبر أحزابها أو على نحو مستقل إضافة إلى وجود أحزاب سياسية تعمل وفق القوانين النافذة تحمي السياسة والصحافة الحرة (وجد في حلب ودمشق فقط نحو ثلاثين جريدة ومجلة وكان عدد سكان سورية بحدود ثلاثة ملايين نسمة) 

وما يلفت في تلك المرحلة أن البرجوازية الوطنية الصاعدة لم تكن لتخشى الحزب الشيوعي الناهض آنذاك بل إن أبرز ممثليها “خالد العظم” رئيس وزراء سورية لأكثر من مرة عرف بالشيوعي الأحمر وتحالف مع خالد بكداش في انتخابات عام 1954 وقد نجح الاثنان، لكنَّ الذي خاف من الشيوعيين الصاعدين، حينذاك، هم البعثيون الطامعون بالسلطة والتفرد بها.. في تلك الفترة برز جمال عبد الناصر بما أنجزه في مصر سواء على المستوى الداخلي أم على المستوى العربي ما جعله زعيماً عربياً بلا منازع، وبخاصة بعد تأميم قناة السويس، وخوض معركة العدوان الثلاثي عام 1956 وخروجه منتصراً.. ثم بعد ذلك تحقيق مشروع أول وحدة عربية بين مصر وسورية.. وكانت سورية بكاملها تؤيد مصر في معاركها الوطنية. حينذاك ذهب عدد من الضباط البعثيين إلى مصر ورجوا عبد الناصر أن يخلصهم من “خطر شيوعي داهم” وعرضوا مشروع الوحدة السورية المصرية عليه، وكل اعتقادهم بأنهم سيحكمون سورية.. لكن جمال عبد الناصر اشترط عليهم بعد مناقشات دامت عدة أيام ثلاثة شروط ربطها الرئيس بتماثل الأوضاع بين البلدين، وأولها حل الأحزاب السياسية، ومن ضمنها حزب البعث طبعاً، وثانيهما عدم اشتغال الجيش بالسياسة، أما ثالثها فتسريح هؤلاء الضباط أنفسهم من الجيش لأنهم يمارسون السياسة.. وقد قبلوا بهذه الشروط وأعلنت الوحدة، وكانت بالفعل حدثاً تاريخياً، لو استمرت لشكلت نقطة انعطاف في حياة المنطقة لكنها مع كل أسف لم تستمر إذ وقع الانفصال بعد ثلاث سنوات ونصف، والحقيقة إن الذي عمل الوحدة هو الذي قام أيد انفصالها، وكانت الخسارة عظيمة لا لأنها أول وحدة في التاريخ العربي الحديث، بل لأن ما جاء بعدها أسوأ بكثير، فقد خسرت سورية تجربتها الاقتصادية الرائدة، وخسرت نظامها الديمقراطي الذي كانت له الريادة أيضاً.. ولم يمض على حكم الانفصال غير سنة وعدة أشهر حتى حدث انقلاب الثامن من آذار الذي قادته جماعة من الضباط الوحدويين والبعثيين، وكان الوحدويون راغبين فعلاً بعودة الوحدة دون شروط، فتآمر عليهم البعثيون، وأبعدوهم معللين ذلك بالوحدة المشروطة! وبذلك يكون عسكر البعث هم الذين صنعوا الوحدة، وهم من أول من وأدها حين سارعوا إلى توقيع وثيقة الانفصال مع بعض كبار سياسيي الحكم السابق لفترة الوحدة.. ومعروف أنَّ الذين قاموا بالانفصال هم ضباط محسوبون على البرجوازية السورية مستغلين بعض الحالات التمييزية التي كانت تجري في الجيش إضافة إلى ما أشير إليه. ومن بين من وقع وثيقة الانفصال أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار وعدد من ممثلي البرجوازية الوطنية..

أما الحزب الشيوعي فهل كان فعلاً ضد الوحدة؟! أبداً فوثائق الحزب تؤكد عكس ذلك تماماً، إذ أصدرت اللجنة المركزية للحزب، آنذاك، بياناً أيد الوحدة، لكنه وضع ثلاثة عشر بنداً لنجاحها واستمراها، وجوهرها اعتماد مبدأ الديمقراطية في الحكم ومراعاة خصوصية كل بلد وعدم القبول بحل الحزب الشيوعي.. ثم عاد ووضع ثمانية عشر بنداً عندما ساءت الأوضاع، وبدأ الشعور بالتململ السياسي جراء حالات كثيرة منها التضييق على المواطنين على يد عبد الحميد السراج الضابط الذي كان مسؤولاً عن الجهاز الأمني.. 

وما يؤكد ذلك ما رواه لكاتب هذه الكلمات المرحوم “عمر قشاش” أن جمال عبد الناصر نفسه أرسل، عبر نائبه عبد اللطيف البغدادي، رسالة إلى قادة الحزب الشيوعي، وقد التقى ببعضهم وعرض عليهم التعاون مندداً بحزب البعث، وكان ذلك بعد نحو ستة أشهر من قيام الوحدة إذ كانت العلاقات قد ساءت مع البعثيين، وقد سرَّب تلك المعلومة “أحمد محفل” إلى المحامي البعثي “عبد الفتاح زلط”. عبر حديث ودي لكن الثاني حملها إلى رفيقه أكرم الحوراني لتصل إلى الرئيس عبد الناصر.. ولعل ذلك شكَّل سبباً إضافياً لحملة الاعتقالات التي طالت الشيوعيين..

ما يستفاد من كل ما تقدم أن غياب الديمقراطية عن أيِّ فعل سياسي هو الذي يلحق أبلغ الضرر بأي مشروع سياسي يقام في عصرنا الحاضر، مهما كان صدق نوايا القائمين عليه، وأن غيابها سبب رئيس لما لحق بالعرب عموماً من هزائم يدفعون ثمنها اليوم ذلاً وصغاراً واستقواء عليهم من حكامهم ومن الأجنبي على السواء..!

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني