ثقافة الحوار والانفتاح
شهدت الحقبة المعاصرة في مجتمعاتنا المنقسمة والمجزأة بفعل فاعل، ربما كان خارجياً والغالب أنه الآن محلي، نقاشات ليست كالنقاشات، لما يُميّز معظمها من حمولة تكفيرية وعنفية وإقصائية، حول الانتماء الديني والإثني والمذهبي والمناطقي وسواها من العناصر المعزّزة للانقسام والتباعد والتنافر. ولا يغيب عن القاصي والداني ما يحفّزه هذا المنطق من تعظيم التمسك الأعمى تطرفاً بحقيقة اعتبر كل منا أنها هي الحقيقة المطلقة، دون أية جرعة، ولو ضئيلة، من النسبية ومن التردد في القطع بصحتّها ورفض الجدل حولها. وقلّما اجتمع شخصان في حلقة نقاش حول أصول الأمور والأشياء، من لغات وعادات وأديان وعروق ومذاهب ومقامات موسيقية، إلخ.. إلا وكان الخلاف، العنيف غالباً، ثالثهما وبإصرار. وحيث إنه يمكن الاعتقاد، مع بعض التردد، بأن كثيرا من المجتمعات المتقدمة قد تجاوزت هذه “الجزئيات”، على الرغم من حقيقة وجود ردّة شعبوية وقومية ومتطرفة في أجزاء منها، وهي مرشحة للتفاقم في ضوء الأزمات الأخيرة، فإنه، وحتى إشعار آخر ربما اقترب موعده، فيبدو أن الأمر وكأنه محصور بأهل الشرق خصوصاً.
منذ عدة سنوات خلت، حضرت مؤتمراً دولياً يعالج أموراً سياسية تتعلق في غالبيتها بمنطقة شرق المتوسط وشمال افريقيا. كنت غير ملتزم بحضور الجلسات التي كانت تعقد تحت عناوين عدة وفي قاعات مختلفة يختار المشارك أقربها لهمّه. لقد فهمت مسرعاً أن التشبيك هو الهدف الأساسي من هذه المؤتمرات، حيث لا علم ولا اكتشافات في قاعاتها المغلقة حيث تعقد الجلسات. وبالتالي، كنت في طور تشجيع ذاتي على الاستفادة من الجانب التشبيكي، معتقداً، وعن حق، بأن لا جديد يُذكر سأندم على عدم متابعته إن لم أكن حاضراً كل ما يتم اقتراحه من قبل المنظمين.
أثناء انهماكي بنقاشٍ مع مجموعة من خبراء العلاقات الدولية الأوروبيين، انتبهت إلى خروج سريع من إحدى القاعات لصديق كردي من العراق ينشط في حقل حقوق الانسان منذ سنوات. وسرعان ما تبين لي بأنه يبحث عني، فتقدمت ليجدني أمامه. ومن دون “احم ولا دستور” مسك بذراعي وعاد بي الى القاعة التي خرج منها قائلاً ان النقاش يدور حول الحقوق المنتهكة للكرد في العراق وفي سوريا. فشعرت بأن حماسه مشروع وبأن الموضوع يستحق مغادرة الممرات لحضور الورشة والمشاركة في نقاشاتها. وبعد ان ابديت الحماس لتلبية الدعوة دون أي تردد، أردف قائلاً، بأنه أعلن للمشاركين بأن ممثل لإحدى “أعرق” الأسر الكردية موجود بيننا وهو حفيد أبرز رموزها. فتوقفت لبرهة متسائلاً عما إذا كان قد اختلط الأمر عليه وبأنه كان يبحث عن زميلٍ آخر. لكنه سرعان ما أكد لي بأنني المقصود وأنا ذاك السليل والحفيد. فشكرته على تكريمي بهذا النسب، إلا أنني أكدت له بأن معلوماته يمكن أن لا تكون دقيقة، على القل حسب علمي، وبأنني للأسف، لست كردياً.
عتب الصديق على “تملصي” من هذا الأصل الكريم، وذكر لي، كتعزيز لظنّه، بأن هذه الاشارة الى كردية عائلتي محسومة وقد وردت في كتاب البيرت حوراني حول تاريخ الفكر العربي المعاصر في معرض استعراضه لسيرة عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902). فأثنيت على عمل حوراني الموسوعي، ولكنني أردفت بأنه لم يكن موفقاً في نسب الأسرة الكواكبية، لعوامل عدة لا مجال لاستعراضها. وحتى لا يشعر صديقي بالعجز أمام عنادي حول الانتساب الى شعب أكنّ له كل التقدير والاحترام كما لشعوب العالم قاطبة، أضفت قائلاً بأن مداخلتي حول العسف الذي حاق، وما يزل، بالقضية الكردية السورية والانتهاكات التي يتعرّض لها بالشعب الكردي في سوريا، ستكون أكبر وقعاً وتأثيرا في الحضور، وستتسم بالموضوعية والعلمية، لأنها تصدر عن باحث ليس جزءاً من هذا المكوّن، فبالتالي، لن تلعب العوامل الذاتية دوراً في صياغة مرافعته. وللأسف الشديد، كانت العادة، وربما هي ما زالت مستمرة، أن يتعرّض كل صاحب انتماء قومي أو اثني او مذهبي، للدفاع عن الجماعة التي ينتمي اليها، ولا نجد إلا نادراً من هو ليس منها ولديه الشجاعة والقناعة لكي يتولى استعراضها بموضوعية. وبالطبع، فقد ابليت بلاءً حسنا كما يقولون، وأعتقد بأن صديقي الكردي كان سعيداً بما أوردت في الورشة.
هذه الحكاية ما فتئت تشغلني خصوصاً عندما أتطرق للقضية الكردية في سوريا، والتي أميل غالباً الى تمييزها سياسياً عن مجمل المسألة الكردية في منطقة بلاد الرافدين، دونما تمييزها انسانياً ولا تاريخياً بالطبع. فالكرد السوريون، كما مجمل مكونات هذا البلد المركّب وغير مكتمل التكوين، وحيث ما زالت مسألة الهوية غير محسومة لمجمل ساكنيه، عانوا وما زالوا يعانون من استبداد لا ينقطع الا لماماً. وزد على ذلك، فإضافة الى استبداد السلطات الحاكمة المتعاقبة على هذا البلد منذ قرون، يؤلمني استمرار نكران وقوعه ورفض ادانته من قبل حتى بعض ضحايا الاستبداد من غير الكرد. وهو انفصام حقوقي عانت منه الحركات المطالبية في المنطقة العربية عموماً، وخصوصاً في مسألة الاستنسابية في دفاع بعض الحقوقيين عن حقوق من خالفهم بالانتماء السياسي أو الديني أو المذهبي أو الاثني.
فكم من اسلامي مُضطّهد لا يعترف بمعاناة غيره من المضطهدين العلمانيين، وكم من علماني مضطهد يرفض الاعتراف بالظلم الواقع بحق الاسلاميين. ويمتد هذا التضامن الانتقائي الى بعضٍ من المعارضين السوريين الذين يستنكفون عن رؤية ومقاربة المسألة الكردية بتجرّد وموضوعية. فكثيراً ما تكتب الاقلام، في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل، وحتى في مراكز الأبحاث، نصوصاً غير علمية وغير موضوعية وتتسم بأنها تمييزية بحق الكرد السوريين تستعيد الخطاب القوم(ج)ي الذي غزته قراءات خاطئة للتاريخ وللجغرافيا. وفي غالب هذه الكتابات تتم الاشارة الى “مصدرٍ” خارجي لهذا الشعب مُحيلةً اساساً على أسطورة روجتها انظمة وعقليات مستبدة تُشير إلى أن جُلّه هاجر من شمال الحدود. ولكن هل تقتصر هذه الاساطير على جانب دون سواه؟
لقد اتاحت وسائل التواصل الاجتماعية “مرتعاً” للكثير من السرديات والمظلوميات وسمحت بتطبيع وتعميم ممارسة النكران. وتوزع التطرف بالقسطاس على جميع الأطراف وصار اللجوء الى الأسطورة منتشراً واحتوت النصوص على جرعات عالية من رفض الآخر أو مهاجمته على أنه المسؤول بشكل شبه شخصي عن مجمل الظلم التاريخي الذي تعرّض له صاحب المظلومية. كما صار استخدام الاشارات الجغرافية والتاريخية غير الدقيقة، عملة رائجة تتداولها مختلف المكونات، وخصوصاً في الخطاب التعبوي التحشيدي غير المستند على عقلانية أو على بحثٍ علميٍ جادٍ. إنها مظلوميات تتواجه دائماً لدى العامة، وتجد نادراً من يتجاوزها للغوص في عمق المسألة لدى النخبة تحسباً من فقدان “الشعبية” التي صارت تستند أكثر فأكثر على استخدام العبارات الرنانة والجمل الصارخة والابتعاد قدر الإمكان عن المنطق والعقلانية والهدوء. وفي المسألة الكردية بالتحديد، يعود سبب “الاستنكاف” عن المعالجة الصريحة والهادئة لها أساساً إلى الحذر من الوقوع في مرمى الانتقادات التي يصل بعضها الى القاسي والجارح من الكلام.
ومن المؤسف أن المواطنة بمعناها الحداثي لم تترسّخ في سوريا بعد الاستقلال حيث فشلت مجمل الانظمة السياسية على بناء الدولة / الأمة كما على ترسيخ مفهوم الانتماء المواطني لكُلٍ جغرافي. وقد ساعد في افشال مشروع المواطنة السورية أكثر من سواه، سيطرة زمرٌ انقلابية همّها الأول السلطة والمحافظة عليها مهما كانت الأثمان المحلية والتنازلات الخارجية. وقد لجأت السلطات الى تقمّص دور المستعمر الذي طالما استعمل قاعدة “فرّق تَسُد” لتعزيز سطوته على مختلف مكونات المجتمع. وصارت الانتماءات اثنية او دينية او مذهبية او مناطقية او قبلية ـ او عدد منها مجتمعة ـ تحجب أي انتماء وطني مشترك يُزيل الفوارق بين اعضاء المجتمع.
المسألة الكردية، كما عدد أصبح كبيراً من المسائل، صارت تتطلب من السوريين حوارات مفتوحة وصريحة قائمة على منهجيات دولية معتمدة في لغة الحوار السياسي. ومن المُفَضّل أن يتم استبعاد أصحاب الرؤوس الحامية من كل الأطراف والذين لا تتجاوز مشاركاتهم في أي نوع من الحوار الرغبة في تخريبه. لأولى قواعد هذا النوع من الحوارات هو ابتعاد كل من يساهم فيه عن التنافس في مستوى المظلومية وسحب البساط لسرديته. فقد تبين من خلال التجارب المتعددة في مختلف الثقافات بأن هذه الممارسة لن تؤدي إلى أي نتيجة وستتوسّع الحلقة المفرغة التي يدور فيها الحوار دون أن يؤتي أكله. والعقلانية في الطرح كما في المعالجة هي السبيل الوحيد لمقاربة ناجحة تكسر هذه الحلقة المفرغة وتناقش مختلف السيناريوهات دون استرسال بلاغي.
جميع السوريين ضحايا للاستبداد بمختلف تلاوينه السياسية والدينية والتمييزية. جميع السوريين أقليّة سياسية واجتماعية وتعبيرية في بلد سادت فيه ثقافة الخوف. جميع السوريين أُبعدوا عن المجال العام وعن التعبير مما أدى الى نمو ثقافة الريبة من والشك بالآخر. جميع السوريين مدعوين لمناقشة الملفات الأساسية بانفتاح كامل على مختلف الاحتمالات التي لن تأت بأسوأ مما كان. وجميع السوريين مناشدين أيضاً بالاعتراف بما اقترفوه ببعضهم بعضا تحت تأثير السلطة او الإغراء أو الترهيب. حينها، وحينها فقط، يمكن للحوار الإنساني السوري / السوري، دون أولويات، ان يؤدي إلى نتيجة.
مساهمة سلام كواكبي في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع الأستاذ سلام كواكبي
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”