fbpx

توظيف التراث الديني في الشعر العربي المعاصر

0 514

يعد التراث الديني – في شتى فروعه – بكل قيمه الفكرية والروحية نبعاً فياضاً يستقي منه الشعراء على اختلاف مشاربهم، وقد تنوع استلهام التعابير الدينية في الشعر المعاصر ما بين قرآنية ونبوية، لكن الظاهرة الاستدعائية الأولى من التراث الديني، والتي تعد صاحبة السيادة في شعرنا المعاصر هي استدعاء الخطاب القرآني الذى تنوع ما بين الاتكاء على البعد الدلالي وحده، أو البعد الصياغي الخالص، أو البعد الإيقاعي الخالص، المهم في ذلك أن الخطاب الشعري كان يمتص الخطاب القرآني في إطار من القداسة التي تكسب الخطاب الشعري نوعاً من التعالي والسمو، وتمنحه قدرات إضافية ليمارس فاعليته في التعامل مع الواقع.

هذا، وقد جاء توظيف التعابير الدينية القرآنية على أشكال متعددة، منها اقتباس التعابير القرآنية وغرسها في البناء الشعري باعتبارها أحد لبناته، وإن كان ذلك لا يحول دون المتلقي ورد الصياغة إلى مصدرها الأصلي عن طريق تداعى المعاني، وإن ظهرت هذه التعابير في أردية جديدة، فإن طاقاتها الإيحائية تعمل في أعماق اللاشعور حتى تصل إلى استثارة مخزونها النفسي/الدلالي في وعى المتلقي، ومن ذلك قول “أحمد مطر”:

قرأت في القرآن:

“تبت يدا أبي لهب”

فأعلنت وسائل الإذعان

“إنَّ السكوت من ذهب”

أحببت فقري لم أزل أتلو

“وتب

ما أغنى عنه ماله وتب”

فصودرت حنجرتي

بجرم قلة الأدب

وصودر القرآن

لأنه حرضني على الشغب. (1)

يعكس المقطع السابق الحالة التي يعيشها الشاعر في زمن تكميم الأفواه، والحجر على كل رأي، فلا مجال للاختلاف في زمن الاضطهاد، فلا يمنع الشاعر من ممارسة طقوسه الدينية فحسب، بل ومن قراءة القرآن تحديداً لأنَّ فيه ما يدعو للثورة على الظلم، فأبو لهب في النص ليس عمَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو كل حاكم ظالم لا يسمع إلا صوته، وصوت من يزينون له الباطل من حوله، فيستمر الشاعر يقرأ ويقرأ في تحد بارز لإكمال المسيرة “ما أغنى عنه ماله وما كسب” فلا المال يغريه ولا التهديد يثنيهّ

إن التناص مع سورة (المسد) يعكس دلالة واقعية تتمثل في شخصية أبي لهب الذي يحارب الإسلام (الحق)؛ لأنه يتعارض مع مصالحه الشخصية، وهذا يشير من بعيد إلى موقف الحاكم الذي يُسكت كل صوت ينادي بالإصلاح حين يتعارض مع هواه.

وفي نفس الإطار لتوظيف التناص القرآني يأتي الشاعر (حسن فتح الباب) مستدعياً النص القرآني، حيث يقول:

أسدل ستار الوقت 

أوقد شموع الصمت 

أسدل فإن العصر خسر 

أوقد فإن اليسر عسر. (2)

حيث يتجلى – للقراءة الأولى – استلهام التعابير القرآنية في قول الشاعر “العصر خس”، و”فإن اليسر عسر”.

ويبدو واضحاً العدول بالخطاب القرآني عن دلالته الأصلية إلى دلالة عكسية، فإذا كان المعنى القرآني يدور في سياق بث الأمل في غد أفضل، إذ يجعل الله بعد العسر يسراً، وأن اليسر /النصر/ الأمل قادم لا محالة، ذلك أنه لا يغلب عسر يسرين، إلا أن المعنى الشعري جاء عكس ذلك ليجسد إحباطات الواقع وغلبة دواعي اليأس في هذا العصر، عصر الخديعة التي تعيشها البشرية، فإن ارتقت في ظاهرها إلا إنها مازالت ترسف في أغلال الذل والقهر، ومن ثم أصبح واقعها خسراناً و هلاكاً، لقد اتخذت الآية الكريمة في نفس الشاعر مساراً نفسياً خاصاً، و تحددت أمامه ببعد شعوري يرتبط بأزمته الراهنة.

ثمة شكل آخر لاستلهام التعابير القرآنية في شعر” أمل دنقل” يتمثل في استدعاء أكثر من آية، الأمر الذى يثرى ظاهرة التناص من خلال اتساع المدى التأثيري بتدخل أكثر من مرجع في إنتاج دلالة النص الشعري، حيث تتشابك الرؤى والمواقف التي تمتد في نسيج التجربة وتتداخل مع اقتباساته لتلتحم ببنية الدلالة الكلية، فتفجر طاقاتها الإيحائية والنفسية، وتشد النص إلى دائرتها و تحركه في إطارها. 

يقول أمل دنقل في قصيدته “لا وقت للبكاء”:

 (.. والتين والزيتون

وطور سنين، وهذا البلد المحزون

لقد رأيت يومها: سفائن الإفرنج

تغوص تحت الموج

وملك الإفرنج

يغوص تحت السرج

وراية الإفرنج

تغوص، والأقدام تفرى وجهها المعوج،

.. وها أنا ـ الآن ـ أرى في غدك المكنون:

صيفا كثيف الوهج

ومدناً ترتج

وسفناً لم تنج (3)

 إن تحوير الشاعر للنص القرآني كان بهدف إبراز المفارقة التصويرية التي تكشف ملامحها أبعاد رؤيته الشعرية، وذلك من خلال “عملية انتخاب واعية لوحدة خطابية بعينها، تقيم مسافة فارقة بينها وبين مجمل الخطاب، وتقارب في الوقت نفسه بينها وبين السياق الذي ترد فيه، إن ذاك التفارق الأول وهذا التقارب الثاني يضفي خصوصية مميزة للتناص التركيبي الذي يداخل بين وحدات دلالية بما يطرح إشكالية النسق على هذا النحو الفني المتنوع زمنياً والمتعدد صوتياً… النسق كفعالية إدماج وتوظيف”. (4)

إن مجيء الاستدعاء على هذا النحو يستلزم من المتلقي الإحاطة بالدلالات القرآنية للوقوف على مدى توظيف الشاعر لها في بنية النص الشعري وتغلغلها في نسيج تجربته.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 

(1) أحمد مطر: الأعمال الشعرية الكاملة /الطبعة الأولى / 2010م / مكتبة جزيرة الورد / ص 30

(2) حسن فتح الباب: الأعمال الكاملة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1998 المجلد الثاني / 468

(3) أمل دنقل: لا وقت للبكاء ـ لأعمال الشعرية الكاملة / دار الشروق / الطبعة الثانية / 2010م /167

(4) محمد فكري الجزار: لسانيات الاختلاف – الطبعة الأولى ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – 1995م ـ ص 468، 469

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني