fbpx

تركيا والعرب بين التحالف أو واشنطن

0 346

دفعت تهديدات الرئيس الأمريكي “بايدن” تركيا ومصر والسعودية لإحداث تقاربٍ سياسي بينهم. وربما يبدو لبعضهم أن التحالفات والخصومات القديمة في طريقها للتبدل، أو خلق تكتلات جديدة، على أمل المواجهة الناعمة للتغيرات التي تقول الإدارة الأمريكية الجديدة إنها ستحدث.
وتتلاحق تداعيات مواقف الرئيس الأمريكي جو بايدن من تركيا، وإمكانية مساندة المعارضة للإطاحة بالنظام السياسي الحالي، والإصرار على سحب تركيا لقواتها من ليبيا، والاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن؛ رداً على ما أسمته واشنطن الاستفزازات التركية ومساعيها لطرح سياساتها الخارجية بعيداً عن التوجه الأمريكي. وتحميلها مسؤولية الحرب في ناغورني قره باغ، ودور تركيا في سوريا، واستغلال ورقة اللاجئين، وتنامي العلاقات بين تركيا وروسيا حيال شراء منظومة إس-400، وفقدان ملامح توقف تركيا عن الاحتكاك مع اليونان وقبرص حول الغاز والتنقيب في شرق المتوسط. تشكل كلها عقبات ومخاطر للعلاقات الأمريكية – التركية، التي لا يأمل الطرفان الوصول فيها إلى القطعية.
في حين تدخل العلاقات الأمريكية – السعودية منعطفاً جديداً، بدءاً من مقتل الصحفي الخاشقجي، وملف معتقلي نشطاء الرأي، إلى توقف دعم واشنطن للعمليات العسكرية في اليمن، والانفتاح على حركة الحوثي. وتشترك مصر مع السعودية في خلاف واشنطن معها في ملف حقوق الإنسان، والتوسع المصري في قضايا الغاز في شرق المتوسط. أججتها زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقاهرة وطرح الكثير من التساؤلات حول مواقف روسيا وحدود دورها المتنامي في المنقطة كلها، من بينها أزمة سد النهضة بين مصر – السودان – أثيوبيا، وتقديم موسكو نفسها كبديل عن الموقف الضبابي للديمقراطيين من قضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتشعر تركيا بحجم الضغط والملاحقة السياسية الأمريكية لها. لذا، فإنه ثمة قضايا سياسية ترغب أنقرة بحلها، ذات أهمية وفائدة أكبر من الجانب الاقتصادي وحده، ساعية لإحداث توازن في سياساتها الإقليمية، على أمل خلق قوةٍ ضاغطة ناعمة، لحماية نفسها من السياسات الأمريكية الجديدة، أو خلق مسارٍ لإعادة التوازن مع الحسابات الأمريكية. هذا التوازن لا يتحقق دون ترميم العلاقات مع القوى الإقليمية الوازنة والمركزية في العالم العربي، تحديداً مصر والسعودية، ويقابله تأنٍ وترو من هاتين الدولتين لمعرفة حجم جدّية والتزام الجانب التركي بالحلف الجديد، أم أنه إعادة تموضع في الخطاب، ومحاولة استمالة تلك الدول؛ لتعود إلى سابق عهدها مع أمريكا، ومعرفة حجم الأضرار التي ستلحق بهما، في حال الوقوف ضد الصف الأمريكي.
ويتجاوز الخلاف التركي السعودي مجرد السردية الاقتصادية، وانخفاض الصادرات التركية إلى السعودية لتصل إلى “الصفر” تقريباً، وإن كان يعكس شبه القطيعة منذ 2018. لكن الفصل الأساسي يتجاوز الموضوع الاقتصادي الذي لا يتجاوز 5 مليار دولار سنوياً، مقابل التبادل التجاري الأمريكي/التركي الذي يبلغ 100 مليار دولار المستهدف منذ 2018 والذي انخفض ذلك العام إلى 25 مليار دولار. لهذا تنازلت تركيا عن دعوتها لمحاكمة مسؤولين سعوديين في قضية الخاشقجي. وتشترط الرياض قبول توجه أنقرة صوبها، بحلحلة إشكالياتها مع القاهرة كشرط أساسي لإعادة تدوير العلاقات مجدداً. وإن كانت سياسة العلاقات التركية تتجه نحو تصفير المشاكل مع السعودية، لكنها تصطدم بتأجيل الخلافات أو ترحيلها إلى مراحل لاحقة مع مصر، مثل ضبط خطاب المحطات الإعلامية لإخوان مصر، النشطين في تركيا، وإغلاق ملف اعتراض تركيا على الانقلاب ضد الراحل “مرسي” وإعادة التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين. وكلها ممهدات لخلق مناح تشجيعي للحوار بين مصر وتركيا، وانعكاسها الإيجابي بالنسبة للأخيرة على تقربها من السعودية. لكن ما لايمكن لتركيا التنازل عنه أو تجاوزه يتعلق بغاز شرق المتوسط، بما يشكله من قضية وجودية لها؛ فهي تحتوي على كميات ضخمة من الغاز الطبيعي والهيدروكربونات. ومع التداخل الإقليمي ضد تركيا تاريخياً، وقربها من مصر، اليونان، وقبرص. فإنه من الصعب التكهن بمصيرها حالياً، والأرجح ترحيلها إلى مراحل لاحقة؛ لما لها من تداعيات عميقة بعد الاتفاق المصري اليوناني، وتدشين منتدى غاز المتوسط.
ويبدو أن النفوذ التركي الأقوى كان يتجسد عبر وجودها في ليبيا، حيث الملفات الثنائية حول الغاز الذي سعت تركيا لكسر عزلتها في المنطقة من خلالها. خاصة بعد اتفاقية التفاهم التركي مع حكومة السراج في طرابلس نهاية 2019، والمتضمنة ترسيم الحدود البحرية بينهما، وتقديم تركيا الدعم والتدريب والمساندة العسكرية المباشرة لقوات السراج ضد قوات خليفة حفتر. هذا النفوذ يصطدم بثلاث عراقيل، أولها: الإصرار الأمريكي حيال انسحاب القوات الروسية والتركية من ليبيا، وهو الموقف الرسمي لوزارة الخارجية في الحكومة الليبية المؤقتة “نجلاء المنقوش” وإصرارها على خروج القوات الأجنبية من الأراضي الليبية أثناء زيارة الوفد التركي إلى ليبيا خلال أيار/مايو2021. وثانيها: الرفض السعودي للتدخل التركي في ليبيا. وثالثها: سبق وأن طلب السيسي موافقة البرلمان المصري للتدخل عسكرياً في ليبيا، وهو ما نال رضا ومباركة السعودية والإمارات.
أمام هذا المشهد والترتيبات السياسية التي تسعى مختلف الجهات لتمريرها في ليبيا، ومنها الانتخابات العامة في البلاد بإشرافٍ دولي قبل نهاية العام 2021 الجاري. ربما وجدت تركيا نفسها أمام صراع سياسي قوامه إثبات استقلاليتها وسياساتها الخارجية بعيداً عن الإملاء الأمريكي، الذي قابله الترويض الأمريكي، لتجد نفسها في أوقات عصيبة، ولعل تحريك ملف الإبادة الأرمينية كان أحد الخطوط الحمراء في تلك العلاقة. وكأحد المخارج، تسعى تركيا صوب خلق مثلث جديد عبر تحالفها مع مصر والسعودية، وضمان حصولها على ضلع في العلاقة الثلاثية بين تركيا وإيران وروسيا. والواضح أن الانفتاح التركي على العرب لن يكون بالأمر السهل واليسير، خاصة مع ملفي وجودها العسكري في ليبيا، وصراع الغاز مع مصر، وهو ربما ما يشكل خط رجوع تركي إلى الحوار مع أمريكا.
بالمقابل تمنح خبرة بايدن بالعلاقات الخارجية معرفة بأهمية تركيا بالنسبة لأمريكا، وتضعه أمام حجم التحديات التي ستخلقها تركيا أمام عمل الإدارة الأمريكية في حال تحالفها مع إيران وروسيا، أو تقديمها لتنازلات حادة مع العرب. لكن الواضح أن تركيا أيضاً تدرك حجم الخطر الذي يحدق بها في حال تركها للحلف الأمريكي، خاصة وأن إنهاء القطعية العربية الخليجية، وإطلاق سراح المعتقلين الأمريكيين – السعوديين والناشطة النسوية لجين الهذلول جاء استجابة لطلب الإدارة الأمريكية الجديدة للسعودية بذلك، بعد لا مبالاة ترامب بتلك الملفات. ومن الصعب جدا أن تلجأ تركيا إلى إبعاد أمريكا عن إنجرليك، حيث الوجود الأمريكي الذي يمنحها إمكانية المراوغة واللعب على وتري روسيا وأمريكا معاً. كما تصطدم المساعي التركية نحو تشكيل لوبي مع السعودية ومصر، بدور الأولى في مواجهة إيران كأكبر الدول المصدرة للنفط في العالم، واحتمالية قرب انتقال السلطة إلى وليّ العهد السعودي؛ بسبب الوضع الصحي السيء للملك سلمان الذي يقترب من العقد التاسع، ومهما ارتفعت حدّية التصريحات الأمريكية حيال السعودية لكن مصالحها المشتركة لن تكون في خطر، ما يعني عدم مخاطرة تركيا في أيَّ خطوة تزعج الجانب الأمريكي. إضافة إلى رفض تركيا الانسحاب من ليبيا، وطلب التوافق مع مصر حول الغاز، ودور السعودية في تجسير أي هوة بين مصر وأمريكا، كلها تشكل ضواغط كبيرة على تركيا، وحافزاً أمام إعادة العلاقات إلى سابق عهدها. ولا يمكن إغفال الملف السوري الذي يتبوأ مركز الصدارة في أية مفاوضات تركية مع أية جهة.
قصارى القول: لا استغناء عن العلاقات التاريخية والنفعية المتبادلة بين تركيا وأمريكا. فأهمية تركيا تعود إلى الموقع الجيوبوليتيكي حيث تشكل رأس الحربة وجزءاً أساسياً من سياساتها الاستراتيجية الأمنية الدفاعية تجاه القفقاس وحوض البحر الأسود، وروسيا والشرق الأوسط. والتمدد صوب آسيا الوسطى حيث المجال الحيوي الروسي. ولا تفريط أمريكي بدولة تشكل ممراً بحرياً وملاحياً يخترق البحر الأسود وبحر القوقاز حتى البحر المتوسط.
وضمن مساعي أمريكا إلى حصار روسيا والضغط عليها، يشكل خط الغاز والنفط جيهان – باكو الورقة البديلة عن الخط الروسي الممتد عبر أوكرانيا. وتركيا كدولة إسلامية مجاورة للمسلمين العرب وغير العرب، فإنه لا تفريط بالورقة التركية، أمريكياً. كما تتعمق المخاوف السعودية من تقارب أمريكي/إيراني حول الاتفاق النووي بين إيران ومجموع الدول 1+5 التي تنظر لها دول الخليج، على أنها خطر إيراني جديد في المحيط العربي، السني تحديداً، وما يستتبعه من مخاطر على الأمن القومي العربي في تلك الدول والمنطقة.
وتشبث تركيا بإخراج غير السوريين من شمال وشرق سوريا، وتثبيت وجودها في شمال وغرب سوريا، يستوجب إحياء العلاقات التاريخية التركية/الأمريكية دوماً، لما للطرفين من مصالح استراتيجية متبادلة.
لذا فإن التقارب والتوافق هو الأقرب لكل هذه الدول مع الشروط الأمريكية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني