بين يدي انتخاب المجرم (2)
تتحمل الذات أولاً المسؤولية بكامل تبعاتها عن أفعالها، فكل نجاح أو فشل، ومتابعة أو تعثر، وعلم أو جهل، يعود إلى الذات الفردية أو الفئة المجتمعية قبل الآخر أو الخارج، وقبل الصديق أو المنافس أو العدو، وعلينا أن نعترف بتقصيرنا وجهلنا السياسي وقلة تجربتنا التي كنا بحاجة إلى مستويات أعلى بدرجات لنحمي مجتمعنا ونحصن هذه الثورة العظيمة ومضامينها الكبيرة وآثارها الهائلة؛ لكن هذا الاعتراف يخرج عن سياقه وفحواه الإيجابي إذا دفعنا إلى تبرئة الآخر وقبلنا بمدحه وتمجيده، وأنه لم يفعل ما فعله ولم يقترف ما اقترفه إلا بسببنا، ويدخل ذلك في ثقافة العبودية وجلد الذات التي تلوم نفسها دوماً، وتعلي شأن سيدها الحكيم الرحيم الرائع الإنساني!
وعلى ضرورة نقاش الأولى – تحمل مسؤولية الأفعال والنتائج – والكتابة فيها والبناء على تجربتها، فإننا نشير إلى خطورة الثانية، ونحذر منها، وندعو إلى نبذها، وعدم التعاطي مع مدمنيها وذويها، فهي في غالب صورها ممنهجة بأعلى رتب المنهجة.
والكلام في أطر المحلي والتركيز عليها يتطلب هدوءاً كبيراً في العمل على توطئة قواعدها وأرضيتها، وإنبات بذورها التي يعتبر أحد أهم شروطها أن تنثر في مواسمها، وأن توضع في مواضعها دون أن يشك في صلاحيتها. وإنني إذ أؤكد أهمية المحلي وأولويته باعتباره أصلاً بكل تفريعاته، وجعله ركن أعمالنا علاوة على كتاباتنا وحواراتنا؛ فإن الذي أريد أن أتكلم عنه وأتمحور حوله في هذه الإضاءة هو الإقليمي والدولي ونظرتهم إلى الانتخابات السورية القادمة، وعلاقتهم بها، وربطها بالمحلي – الذي تعرضت له في إضاءة سابقة تحت العنوان نفسه – بقليل من التفصيل.
استطاع الشعب السوري بتراكم تضحياته وشدة معاناته أن يصنف الأدوار الوظيفية لجميع الإقليمي الذي مارس الكذب والخداع والنفاق والاستهتار بالدماء السورية الزكية، والأعراض الطاهرة النقية، ويسعى الآن برعاية الدولي إلى تتويج نفاقه وتحميل السوريين مرة عاشرة عبء هذا الخداع ومسؤوليته، وتستمر سذاجة بعضهم بتحميل أوزار هذا الكذب الإقليمي والدولي للسوريين سياسياً، والمتابعة بتقديم خدماتهم لهم ضد شعبهم. فتجتهد الآلة الإعلامية لتصوير أن فرصتنا لن تعوض إذا تركنا الانتخابات القادمة ولم نشارك بها، وعلينا ألا نخلي الساحة – حسب قولهم – للمجرم وحده، وأن نزاحمه فيها، وأن فوزه يعني إعادة تعويمه وتأهيله لسبع سنوات أخرى، وإذا لم نقبل بواقعية انتخاب المجرم وابتدعنا طريقة للدخول فيها فإننا – وفق قولهم – نتحمل المسؤولية كاملة ونعتبر سلبيين ونساهم بتعميق آلام شعبنا وجراحه.
هذا ما يريده منا ويدعونا إليه الإقليمي والدولي وأدواتهما المحلية، أو السذج سياسياً من السوريين، وهو غير صحيح البتة.
أليست انتخابات 2021 أكثر سوءاً وخللاً وأشد وطأة من انتخابات 2014 على العصابة وداعميها ظاهراً وباطناً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً؟!
لماذا لم تتم دعوة السوريين إلى المشاركة في انتخابات 2014 بهذا الزخم الذي نشاهده ونلاحظه على أعتاب انتخابات 2021! لأن أملاً كبيراً كان يساورهم في إعادة السوريين إلى بيت الذل وحظيرة القهر والهوان، وحينما خابت آمالهم قيل لآلة الإجرام مزقي السوريين وشرديهم، واردمي مستشفياتهم فوق جرحاهم، ومدارسهم وجامعاتهم فوق طلابهم.
وماذا فعلوا مع العصابة المجرمة بعد انتخابات 2014 أو قبلها؟! السوريون وحدهم الذين فعلوا، لكنهم بقوا على ثقة ببعض الإقليمي وبالدولي، فضيعوا بهذه الثقة جزءاً مهماً وكبيراً من تضحياتهم وإرادتهم وقراراهم السيادي.
ألم تجرهم هذه الثقة إلى معزوفة توحيد المعارضة المشروخة، ثم إلى جنيف “2” فماذا كانت النتائج سياسياً وعسكرياً؟! ألم تسحبهم هذه الثقة إلى الرياض “1” ثم السلال الأربعة، ثم الرياض “2” فما هي الفوائد سياسياً وعسكرياً؟! ألم يدفعوا دفعاً شديداً تحت الثقة ومشتقاتها إلى الأستانة ومناطق خفض التصعيد وإلى سوتشي، فما المآلات السياسية والعسكرية التي ألمت بالسوريين؟!
كم استجابة لـ “ألم” جرت ألماً وأحدثت جرحاً غائراً في أجسادنا ونفوسنا، ثم يسخر الإقليمي والدولي كل إمكاناته – ولن ينجح – ليأتي بالسوريين إلى انتخابات الإجرام والتوحش، وهي فرصتهم الأخيرة – وليست فرصتنا – قبل بداية المرحلة الجديدة للثورة.
ولن يتخلوا طواعية عن العصابة لأنها الضمانة الوحيدة التي سيتابعون من خلالها أدوارهم بإعادة بناء الجهاز الأمني الذي مرغ السوريون أنفه في التراب، فقضوا على أهم أذرع النظام الدولي في المنطقة، وسيعيدون – الإقليمي والدولي – الهيبة للحرس الثوري الإيراني الذي كسره السوريون فأطاحوا بمشروع المقاومة والممانعة الزائف، وسيدعمون الروسي الذي أعجزه السوريون عن الانتصار السياسي بعد صولاته وجولاته الإجرامية، وسيروجون ويبقون على الديمقراطية الزائفة في المنطقة التي يحظر عليها أن تشم رائحتها، أو تمارسها حقيقة بالحد الأدنى لأنها الوسيلة الأنجع التي ستعيد تنظيم شبكة العلاقات الدولية على نحو مختلف ومغاير لإفرازات حرب القرن العشرين الثانية، وسيثبتون منظومة الاستبداد في المنطقة برهة أخرى من الزمن.
هذا ما يحرص عليه الإقليمي والدولي فمن سيثق به من السوريين مرة أخرى، وماذا عسانا أن نقول لهم وعنهم إذا أرادوا فعل ذلك، وأي إجراءات سنتخذ؟!
لقد أطلقت الثورة السورية مساراً تغييرياً كبيراً وعميقاً يختلف جذرياً عن سياقات العصابة الحاكمة، والحقبة التي انتمت لها، والظروف التي ساعدتها على التموضع. كما تختلف عن المعارضة بكل أيديولوجياتها وانتماءاتها وعلاقاتها وهياكلها.
وعلى الإقليمي والدولي أن يفاضلوا بين الثورة وبين ما يقابلها، وألا يظهروا مزيداً من العناد أو التعالي عليها لأنها ستفضخهم أكثر، وستضيق عليهم مزيداً، وستفاقم مشكلاتهم وأزماتهم الداخلية والخارجية، وسيأتي زمن – ليس ببعيد – لن يملكوا أمامه خيارات، ولا يدخل هذا المعنى في إطار المطالبة والرجاء والاستجداء، بل الندية التي لا تنفع معها المماطلة والمخاتلة، وفي الوقت الذي أجزم فيه أن الإقليمي لا يملك الجرأة على القبول بالربيع العربي عموماً وبالثورة السورية خصوصاً والتفاعل معها، فإني أرجو ألا يصلوا إلى صلف متقدم فيجر المنطقة إلى مزيد من الدمار والمعاناة، وألا يقودوا شعوبهم بأوهام زعاماتهم ومكاسبهم الورقية والآنية إلى فصول أخرى من التشتت والضياع.
إن الإقليمي الذي مازال يلاحق السوريين أو يزدريهم أو يهددهم، أو يضيق عليهم في أرزاقهم، أو يحد من تحركاتهم، أو يحرفهم عن قضيتهم لن تطول أفعاله، ولن ينجو بها، ولا يمكن التعويل عليه سياسياً، وغاية ما يسعفه دوره الوظيفي صيغة طائف مشوهة سرعان ما تنفجر ثانية بشكل أقوى.
إن الإقليمي والدولي الذين لم يدعموا إلا الأنذال والأرذال والجهلة والأغرار، وتعاملوا مع السوريين بطريقة الاستئجار، وأرادوا أن يصوروهم في عيونهم وعيون الآخرين أنكم هكذا، قد ضلوا الطريق وخانتهم الحقيقة، ولا يمكن حسبانهم حلفاء أو أصدقاء، وسيدفعون ثمن ذلك غالياً إن لم يعترفوا به ويتراجعوا عنه.
إن الإقليمي والدولي الذين استثمروا في الإرهاب، ودعموه بالمال والسلاح، وسهلوا له العبور ففتحوا له الموانئ الجوية والبحرية والبرية راغبين أو راهبين، وأطلقوا يده ليساند العصابة الحاكمة، ويتكامل معها الدور الإجرامي ضد الشعب السوري وثورته العظيمة، لا يعتبرون ضامناً للاستقرار، وعليهم أن يتداركوا ما قاموا به، ولا يجدر بواع سياسياً أن يثق بأحدهم.
وعلى السوريين – رغم الصعوبات الجمة – أن يقطعوا على الإقليمي والدولي جميع الفرص في مشاركة العصابة في الانتخابات أو الحكم، وإن كل الدعوات والمحاولات الجارية هي – خاصة من أولئك الذين خاضوا تجارب فاشلة سابقاً – لتشكيل طوق نجاة انتخابي للمجرمين. وعليهم أن يواجهوا محاولات الترهيب الإقليمية والدولية كما واجهوا ترهيب العصابة، وأن يؤكدوا بأفعالهم أن رسائل التهديد لن تصل إلينا، ولن تثني عزيمتنا، ولن تستقر في أعماقنا، فهناك الكثيرين من الشعب السوري لا يخشون السجون ولا الرصاص ويستخفون بالأموال النتنة، ويزهدون بالعلاقة سوى التناظرية.
وعلينا أن نؤمن أن الخيارات أمامنا مازالت متعددة ويمكن أن تفتح آفاقاً وتخلق فرصاً لا تقل أهمية عما سبق.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”