fbpx

بين رماد الحرب والطائفية… أين ستضع سوريا خطواتها القادمة؟؟

0 90

في خضمِّ الربيع العربي، اندلعت الثورة السورية عام 2011 كحركةٍ سلميةٍ تطالب بالحرية والكرامة، بعد عقودٍ من حكمٍ استبدادي قَمع الحريات وحوَّل البلاد إلى سجنٍ كبير. لكن النظام، بدلاً من الاستجابة للمطالب المشروعة، شنَّ حملةً عسكريةً وحشيةً على المتظاهرين، ولجأ إلى خلق انقساماتٍ طائفيةٍ مفتعلةٍ لتحويل الصراع إلى “حرب أهلية” تُبرر بقاءه. وفي الوقت نفسه، استغلَّت قوى خارجية الأزمةَ لتحقيق مصالحها، فزادت الحرب تعقيداً. واليوم، بعد أكثر من عشر سنواتٍ من الدمار، تُواجه سوريا تحدياتٍ مصيرية: كيف تُبنى دولة مدنية من رماد الحرب؟ وكيف يُعاد لمّ شمل مجتمعٍ مزقته الهويات الفرعية؟

سوريا لم تكن يوماً ساحةً للصراع الطائفي بالمعنى الجوهري، ولم تكن الطائفية انعكاساً لتناقضات المجتمع، بل أداةً استخدمها النظام لضمان بقائه كلما تعرضت سلطته للتهديد. فقبل حكم الأسدَين، الأب والابن، كان المجتمع السوري يتمتع بنسيجٍ اجتماعيٍ مرن، يعكس تنوعه الجغرافي والديني دون أن يتحول إلى عامل تفكيك. لكن النظام، منذ سبعينيات القرن الماضي، حوَّل هذا التنوع إلى سلاحٍ للبقاء، فزرع الخوف بين المكونات عبر خطابٍ مزدوج: يروّج للعلمانية شكليّاً، بينما يوزع الامتيازات على أساس الولاء الطائفي. وعندما اندلعت الثورة، لم يكن مفاجئاً أن يلجأ إلى ذات السلاح، محوِّلاً المطالب الشعبية إلى “تمرد سني” يهدد “الأقليات”، في محاولةٍ لضمان دعم دولي وإقليمي تحت ذريعة منع الفوضى.

لكن الثورة، في جوهرها، لم تكن طائفيةً ولا منغلقةً على هويةٍ واحدة. فالشباب الذين خرجوا في شوارع درعا ودمشق وحمص وباقي المحافظات السورية حملوا علم الاستقلال، لا رايات المذاهب، وغنوا للحرية، لا للانقسام. حتى عندما تحوَّلت الاحتجاجات إلى مواجهات مسلحة، ظلَّت روح التعاون والمحبة بين ابناء سوريا حاضرةً في كثيرٍ من المناطق، حيث تعاون السكان من مختلف الخلفيات على حماية أحيائهم من قصف النظام. لكن الفوضى التي خلفها انسحاب النظام من بعض المناطق، سمحت لجماعات مسلحةٍ ذات أجندات ضيقة بالظهور. بعضها ارتبط بخطابات دينية متشددة، فرضت قيوداً على الحريات الفردية باسم “الأخلاق”، بينما تحالفت أخرى مع قوى إقليمية حوَّلت الثورة إلى ورقة مساومة.

هنا بالضبط تكمن المفارقة: فبينما كان النظام يروّج لسردية “الحرب على الإرهاب”، كانت بعض الجماعات المسلحة تُقدّم له، عن غير قصد، الأدلةَ التي يحتاجها. فالحوادث الاستفزازية، التي مارستها فصائل متطرفة تحت غطاء الثورة، لم تكن تعكس إرادة الشارع السوري، بل نتاجَ غياب رؤيةٍ موحدةٍ للثورة، واختراقٍ خارجيٍ استغلَّ حالة الفوضى. لكن هذه الحوادث، وإن كانت هامشية، أعطت النظام والتدخلات الدولية ذريعةً لتعميم الصورة النمطية عن الثورة، مما سمح بتهميش المطالب الحقيقية للسوريين، وتحويل النقاش إلى “من سينتصر في المعركة الطائفية”.

وفي خضم هذا التشويش، برزت إشكالية الهوية السورية كأحد أعقد الملفات. فالدستور الحالي، الذي كُتب تحت سيطرة النظام، لا يعترف بالمواطنة المتساوية، بل يُكرّس الامتيازات لطبقةٍ حاكمةٍ تستمد شرعيتها من الولاء، لا من الإرادة الشعبية. أما المشاريع الدستورية المطروحة من قبل المعارضة أو المجتمع الدولي، فغالباً ما تسقط في فخ “المكوناتية”، حيث تُختزل الهوية إلى فسيفساءٍ من الأقليات، كلٌ منها يطالب بحصةٍ في السلطة. هذا النهج، وإن بدأ كرد فعلٍ على ظلم النظام، فإنه يهدد بتحويل الدولة إلى إدارةٍ طائفيةٍ هشَّة، تُدار عبر توازناتٍ خارجية، لا عبر عقدٍ اجتماعيٍ داخلي. ومن هنا تبرز أهمية الاستفادة من تجارب دولية نجحت في تجاوز مراحل مماثلة مثل – جنوب أفريقيا – عندما جعلت الهوية الجامعة أساساً للدولة، مع ضمان تمثيل عادل للجميع.

ولمواجهة هذا الخطر، لا بد من عقدٍ جديدٍ يرفع شعار “المواطنة أولاً”، حيث تُبنى الحقوق على أساس الانتماء الوطني، لا الديني أو الإثني. فالدستور يجب أن يكون جامعاً يعترف بالتنوع كإرثٍ تاريخيٍ، دون أن يجعله أساساً للتقسيم السياسي. وهذا يتطلب إصلاحاً جذريّاً للمؤسسات، بدءاً من الجيش والأجهزة الأمنية، التي حولها النظام إلى أدوات قمعية لخدمة السلطة، وصولاً إلى النظام التعليمي، الذي ظلّ لعقودٍ يُغذي الانتماءات الضيقة عبر مناهجَ تُهمّش التنوع.

وفي الجانب القضائي، لابد من إصلاح النظام القانوني لضمان استقلاليته، وإنشاء محاكم متخصصة لمحاسبة مجرمي الحرب من جميع الأطراف، دون انتقائية.فالمصالحة الحقيقية لا تعني العفو عن الجرائم، بل تحقيق عدالة تعيد للضحايا اعتبارهم وتمنع تكرار الانتهاكات.

لكن بناء الدولة لا يقتصر على الإصلاح المؤسسي، بل يحتاج إلى معالجة الجرح الاجتماعي الذي خلَّفته الحرب. فجيلٌ كاملٌ نشأ على خطاب الكراهية، بينما تشظَّت العائلات بين النزوح والمنفى. هنا، يجب أن تلعب الثقافةُ والإعلامُ دوراً محوريّاً في إعادة تعريف الهوية السورية، عبر إنتاج أعمالٍ فنيةٍ تروي قصص التضامن بين المكونات، وإطلاق منصاتٍ إعلاميةٍ تعكس صوت الناس دون تحريض. كما أن تعزيز الحريات الفردية – من حق ارتداء ما يختاره الإنسان إلى حق التعبير عن المعتقد – سيكسر حاجز الخوف بين المجموعات، فالمجتمع الذي يحترم خصوصيات أفراده يصبح أكثر قدرةً على تجاوز الانتماءات الضيقة.

غير أن التحديات المستقبلية لا تقل خطورةً عن إرث الماضي. فالاقتصاد المنهك، الذي يعاني من عقوباتٍ دوليةٍ وفسادٍ مستشري، يحوِّل الحياة اليومية إلى معركةٍ للبقاء، وإعادة الإعمار – رغم ضرورتها – لن تنجح دون ضماناتٍ دولية ترفع العقوبات تدريجيّاً، وتوجيه استثماراتٍ ضخمة نحو البنى التحتية وخلق فرص العمل، مع مراقبة صارمة لمنع عودة الفاسدين.

وفي النهاية ورغم قسوة الواقع، تبقى سوريا قادرةً على تجاوز مآسيها إذا التزمت بثلاثة مبادئ: العدالة، كأساسٍ للمصالحة، والمواطنة، كضامنٍ للوحدة، والإرادة السياسية، كجسرٍ نحو المستقبل. فالشعب الذي تحدى الاستبداد بقوة الإيمان بالحرية، قادرٌ – بإرادته – على تحويل التنوع من لعنةٍ إلى نعمة، شرطَ أن يُمنح الفرصة لبناء دولته دون وصايةٍ داخلية أو تدخلٍ خارجي. التاريخ يُعلِّمنا أن الأمم العظيمة تُبنى من رحم المعاناة، وسوريا – بروح شعبها – لن تكون استثناءً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني