fbpx

بعضُ الإعلام المتحرِّش

0 377

لا تنفكّ بعض قنوات الإعلام السوري البديل عن طرح قضايا المرأة السورية وإخضاعها للتحليل والنقاش بطرق “عصرية” ومنفتحة “جرعة زائدة” دون معرفة السبب الكامن وراءَ هذا الانفتاح، وهو يُفسّر بطريقتين، إما أنه يتناسب وأهواء الداعم، أو أن الهدف منه إثارة موضوعات إشكالية لجذب الجمهور، والأخير مسوّغ إذ ما كان الطرح جيداً وعولج من قبل مختصين وأصحاب تجارب حيّة.

وصار من المألوف أن نشاهد مواد إعلامية سمعية وبصرية ومكتوبة، بكثافة الماء، تثير القضايا الجنسية لدى النساء كأحد أبرز همومهن، أو حوادث التحرّش الجنسي، ورواج المرأة السورية في أسوق الدعارة، وأنواع غشاء البكارة، وموضوعات كثيرة أخرى تتفّه ما مرّت وتمرّ به المرأة السورية من صعوبات في طريق نضالها لنيل حريتها وكرامتها.

المشكلة أن هذه القنوات ليست معنيّة بقضايا المرأة الحقيقية وربما لا تعرفها، وهي تهتم بالدرجة الأولى بمصالحها الربحية أو الترويجية، وليست أيضاً بمكان من الحرفية والخبرة يخوّلها معالجة مثل هذه الموضوعات معالجة شاملة تنطلق من أصل المشكلات الجنسية والعاطفية والتربوية وتحاول تسليط الضوء عليها ودراسة أسبابها ونتائجها، كما أنها ليست واعية بحجم الضرر والتسطيح الذي يسبّبه فتح هذه الملفّات في ظروف غير مواتية، فهي لا تكترث إلا بالشهرة والمكاسب على حساب قضية حقيقية فيها من الآلام والعذابات ما لا يعدّ ولا يحصى.

لم تكن يوماً قضية المرأة بشكل عام والسوريّة بشكل خاص هي الجنس، وإن كان فعلاً يشكّل أزمة في سياق حياتها وتنشئتها وتاريخها، إلا أن هذه الأزمة هي نتاج لمشاكل أكبر يغيّبها بعض الإعلام الموجّه لإحلال موضوعات ثانوية مكانها، فمشكلات المرأة الجنسية هي ناتج ضعفها وانكفائها وعدم انخراطها في السياسة والاقتصاد وإبعادها المتعمّد عن المشاركة في صياغة مصيرها.

يشوّه طرح هذه الموضوعات بطرق متواضعة وأحياناً مبتذلة القضية الأساسية، ويقود حراكاً نسائياً خلّبياً لا يعرف أهدافه الأصيلة، وبالتالي لا يصل إلى نتائج ملموسة على مستوى تحرير المرأة أو حتى حمايتها، بل غالباً ما يؤدي إلى تكريس الصور النمطية عن المرأة، ويغذّي أفكاراً مغلوطة عنها بتجسيدها كائناً هشّاً وعرضة للإساءة.

تتذرّع هذه القنوات/المؤسسات عادةً بأنها مسكونة بهمّ المرأة وحرياتّها، وبأنه آن الأوان لكسر المحظور والحديث بجرأة عن كل شيء يخصّها، فبذلك فقط يكون التغيير، وبذلك فقط تُرسم حدود للمتحرشين والعابثين والمغتصبين للنساء، دون التعريج على ماهية الأخيرين، والأسباب التي دفعتهم للقيام بهذه الأفعال، والأسباب التي دفعت النساء أيضاً للتصرّف بهذا الكم من السلبية والخشية، وتعود المرأة لتتصدّر عرش الضحية بصورة أكثر فجاجة، ويسقط عن طاولة التحرير مسائل عمل المرأة وتعليمها وكينونتها، ويسقط معه أيضاً الأسباب المفصلية الكامنة وراء تهميش النساء وتفقيرهن وتجرديهن من أدنى حقوقهن السياسية والمدنية.

تحدّثت الكاتبة المصرية نوال السعداوي في مؤلفاتها عن التحرش الجنسي والكيفية التي يُراد بها إظهاره في الإعلام على أنه مشكلة المرأة الرئيسة وورطتها التي لا مناص منها، وكابدت محاولةً إيصال فكرة مفادها أن تصدير التحرش الجنسي والدفع به إلى المقدمة ما هو إلا محاولة لإخفاء تحرّش أكبر منه، تحرش سياسي واقتصادي وربما فكري يرمي لإبعاد المرأة والمجتمع برمته عن مظالم كبيرة واقعة عليه.

تستقبل هذه المنصات (المنصات الإعلامية المهتمة بقضايا المرأة) وجهات نظر ضحايا ومتحرّش بهم وضيوف “مختصين” بعلم النفس والاجتماع لكن اختصاصهم عمودي بحت وأحياناً سطحي، ينظرّون بموضوعات الجنس والتحرش بتجرّد، دون التطرق لأسبابها، ناهيك عن عدم  قدرتهم على الربط بين ما يحصل للمرأة من تعديّات وهضم حقوق وحريات، وبين حال المجتمع والفكر السائد وأقطاب القوة، ويلقون باللوم على المرأة التي اعتادت أن تسكت عن متجاوزين بحقها، ويطالبونها بفضحهم، وبرفع صوتها عالياً لكشفهم وبالتالي الحؤول دون تعرضها أو تعرّض غيرها لحوادث مشابهة.

وتحت شعار (رفع الصوت وكشف الانتهاكات الجنسية) تتحوّل تجارب بعض النساء المؤلمة إلى مواد دسمة لبعض القنوات، تنسج خلالها السبق على مستويات ضيقة، ويتم إخراجها بطرق ساذجة مسقطين وقع هذه التجارب على المرأة، ومغفلين دوافع الممارسات المسيئة وإمكانية ضبطها والسيطرة عليها، ويكون الحدّ منها وفقاً لوجهة نظرهم عبر طرحها في الإعلام بصوت عالٍ.

بينما يدرك العارف أن استئصال التحرش بالنساء لن يكون إلا عبر بناء امرأة صحيحة، قوية ومستقلة، قادرة على ردّ الأذى عنها وإكمال حياتها دون وصاية، وبالمقابل فإن صعود هذا النوع من النساء يعتمد على مجتمع قويم يرعى حقوق الإنسان ويبيحها وهو غير متوفر في الحالة السورية، وبعيد عن المنال في الأفق القريب. ما تفعله تلك القنوات هو تحرش إعلامي مُضاف إلى التحرش الأساسي الذي تتعرض له المرأة ومحيطها ويتوجّب الكفّ عنه.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني