المواطنة
يعتقد بعضهم أن مفهوم المواطنة مستحدث والحقيقة، أن مصطلح (مواطن) يوناني قديم استخدم في الدستور اليوناني في أثينا لكن بصيغة مختلفة عن مفهومه الحالي، فاستخدم مصطلح مواطن للرجال اليونانيين الأحرار وتساويهم في الحقوق والواجبات، وأقصى النساء والعبيد، فهم لا يتمتعون بصفة المواطن.
تطور مفهوم المواطنة بحسب الزمان والجغرافيا فالفارق في التطور بين الشرق والغرب كبير جداً لأن الغرب انفتح على الحضارات القديمة الإغريق واليونان واستفاد منها لكن الشرق الإسلامي تقوقع على نفسه ولم يستفد من الفكر المتطور للحضارتين اليونانية والإغريقية.
بالرغم من عصر السبات التي عاشته أوروبا إلا أن الرجال المتنورين (جان جاك روسو) فيها أوقدوا شعلة الفكر الحر، بنشر ثقافة الحرية الفكرية والسياسية وتقليص صلاحيات الحاكم الذي يستمد صلاحياته من تفويض الشعب، له مصدر السلطات، فالفرد هو السابق للدولة وليس وليدها فهو الأصل والأفراد المكونين للشعب هم الأصل، وإرادتهم العامة هي الأساس الذي يستمد منه الحكم في الدولة.
هذا النضوج في التحليل ليس وليد العصر بل جاء نتيجة كفاحات رجال الفكر الأوربيين منذ القرن الثالث عشر، توجت بالثورة الفرنسية العظيمة التي تبنت قيم ومفاهيم حقوق الإنسان ومنها الوصول للمواطنة كحق في التساوي بالحقوق والواجبات والمشاركة الحقيقية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقاً من المبادئ الديمقراطية بأحقية الشعب أن يحكم نفسه بنفسه ولا يكون ذلك بدون عملية ديمقراطية تتبلور عنها مشاركة حقيقة بالحكم عبر صيغ وأساليب يختارها الشعب تتوافق مع مصالحه بتفعيل دور الفرد واكتسابه لحقوقه بحرية الفكر والرأي والمعتقد، بالتساوي مع الآخرين دون إقصاء أو تمييز.
اتسع مفهوم المواطنة في العصر الحالي لأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية فلم يقتصر على الانتماء للوطن بمفهومه الجغرافي كتابع بل عضو فعال له كيانه وقناعاته (كمواطن) في علاقته مع مؤسسات الدولة التي توفر للمواطنين ما يحتاجون من أمن واستقرار، فيشكل الوطن مجموعة من المبادئ والقيم والأهداف العامة للمواطنين.
لا تستقيم المواطنة بدون مقومات لوجودها تتمثل في:
– مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين بالحقوق والواجبات استناداً للقانون المرجع الوحيد في تحقيق المساواة بين المواطنين، الذي يتحقق عبر قانون عادل وقضاء مستقل يضمن تحقيق العدالة بتطبيق القانون دون تمييز. لا أن يكون الانتساب لحزب أو الانتماء لطائفة يمنح ميزة أو يكون سبباً في الاتنقاص من الحقوق، المرجع الوحيد في الممارسة للحقوق والقيام بالواجبات هو القانون والقانون فقط.
– المشاركة في الحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بحرية الفرد في الرأي وانتقاد أصحاب القرار وحرية الفكر والمعتقد والفن وممارسة ذلك حقيقة عبر حريته بتكوين الأحزاب أو جمعيات مدنية وإنشاء الأندية لتعدد الأهداف والمصالح، وحرية المجتمع بالنشاط المدني والسياسي لفسح المجال لتكوين رأي عام في شتى المجالات، السياسية وغيرها، أي قيام نظام ديمقراطي تعددي يلتزم بتحقيق مصالح المواطنين ويستمد شرعيته من الممارسة الحقيقية للمواطنين في انتخاب ممثلين عنه عبر المؤسسات التمثيلية الملزمة بتحقيق الرغبات العامة، ينظم العلاقة بينهم دستور يحترم مبادئ حقوق الإنسان.
لا تستقيم المواطنة دون وجود نظام ديمقراطي يحقق المواطنة فيشعر المواطن بحقوق الوطن عليه ويلتزم بها بكل رغبة وطواعية ويتفاعل بشكل إيجابي مع كل قضايا الوطن.
تحتاج المواطنة لظروف ومقومات لوجودها، فهي ليست قراراً آنياً، إنها سيرورة تاريخية تختلف من زمان لآخر ومن مجتمع لآخر ومن منظومة سياسية لأخرى، يتربى المواطن عليها منذ الطفولة فدور الأسرة والمدرسة والمجتمع كأقنية متواصلة متكاتفة لغرس مبادئ حقوق الإنسان في الأطفال ببناء الشخصية الإنسانية وإكرام الذات وزرع القيم والمفاهيم الأخلاقية من الصدق والمحبة والتسامح والتعاون ونبذ أي شكل من أشكال التمييز أو الاقصاء واحترام الآخر المختلف، والتشجيع على المبادرة والتعبير عن الرأي بحرية ليكونوا قادرين في المستقبل على تحمل المسؤوليات وممارسة الحقوق والواجبات. وهذا ما يسمى – التربية المواطنية – تزرع منذ الطفولة كون الطفل مواطن له حقوق يتفهمها ويطالب بها ويؤهل ليكون مواطناً فاعلاً إيجابياً في المستقبل.
الديمقراطية هي المناخ الطبيعي والوحيد لقيام المواطنة فلا يمكن تصور قيام المواطنة في ظل نظام قمعي يكم الأفواه ويقيد الحريات، ويمارس الاستبداد بكل أشكاله. يكون سبباً في زرع الحقد والتناحر والتنافر والإقصاء بين فئات المجتمع، فتسوده الفردية وتغلب المصلحة الخاصة على العامة ما يشكل خطراً على المجتمع والدولة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”