المنطقة الآمنة تظهر من جديد، الدلائل والأسباب..
اليوم مرة أخرى تطفو على السطح فكرة المنطقة الآمنة التي كثيراً ما جرى الحديث عنها في السنوات القليلة الماضية.
فالمنطقة الآمنة كانت محل شد وجذب طويل بين أمريكا وتركيا جرى فيها مفاوضات ولقاءات مطولة بين الجانبين التركي والأمريكي، واعترضت المفاوضات كثير من العقبات التي لم يتوصل الطرفان إلى حل مشترك لها، وربما كانت إحدى هذه العقبات يتمثل في عمق المنطقة الآمنة في الداخل السوري الذي يريدها كل طرف، فأمريكا ترى أو كانت ترى خلال السنوات الماضية عن منطقة آمنة لا يتجاوز عمقها 10-15 كم في محاولة منها لحماية حليفها قوات سوريا الديمقراطية من أن تتغول تركيا عليها وكانت تحرص أن تبقى قسد خارج المنطقة الآمنة بينما أنقرة تقول وعبر سنوات إن عمق المنطقة الآمنة يجب ألا يقل عن 30 كم عمقاً بطول حدودها الجنوبية مع سوريا.
اليوم وبتصريح الرئيس التركي، تعود مجدداً فكرة المنطقة الآمنة، حيث أكد أردوغان أن عملية عسكرية جديدة ستنطلق لإيجاد حزام آمن بعمق 30 كم على طول الحدود الجنوبية لتركيا.
ولكن ما المنطقة الآمنة وماهي حدودها؟
كانت فكرة المنطقة الآمنة قد طرحت لأول مرة من قبل تركيا خلال الزيارة التي قام بها الرئيس التركي أردوغان إلى واشنطن في أيار 2013، وبدأت أنقرة بمطالبة المجتمع الدولي بها، وعرضت على الرئيس أوباما آنذاك تأسيس منطقة آمنة عازلة داخل سوريا بإشراف الأمم المتحدة لتكون مأوى للمدنيين الفارين من جحيم الحرب، لكن الطلب التركي قوبل بالتسويف والمماطلة.
فوفقاً للرؤية التركية، فإن المنطقة الآمنة تشمل المساحة الجغرافية الواقعة شمال الطريق الدولي m4 الذي يربط الشمال السوري بعضه ببعض، وتضم هذه المنطقة مدناً وبلدات من ثلاث محافظات سورية وهي الرقة، وحلب والحسكة، وتمتد على طول 460 كم بعمق 32 كم على طول الحدود السورية التركية، وأبرز المناطق المشمولة في المنطقة الآمنة وفق الرؤية التركية، المناطق الواقعة شمال الخط الواصل بين قريتي صرين في “محافظة حلب” وعين عيسى في “محافظة الرقة”، كما تضم مدينة القامشلي، وبلدات رأس العين، وتل تمر، والدرباسية، وعامودا، ووردية ،وتل حميس، والقحطانية واليعربية، والمالكية “محافظة الحسكة” وتضم المنطقة كذلك كلاً من “عين العرب” في محافظة حلب وتل أبيض في محافظة الرقة.
ونتيجة المفاوضات التي جرت منذ ذلك التاريخ بين الجانب الأمريكي والجانب التركي والعقبات التي اعترضت الاتفاق توقف الحديث عن المنطقة الآمنة، فبعد أن سيطرت في آذار من عام 2016 الميليشيات الكردية متمثلة بقسد على الحدود السورية – التركية بدعم أمريكي، أعلنت قسد حينها عن إقامة منطقة فدرالية في المناطق التي تسيطر عليها، الأمر الذي حدا بأنقرة إلى اعتبار هذا تهديداً خطيراً لأمنها القومي، فكانت أن دفعتها إلى القيام بعمليتين عسكريتين الأولى، درع الفرات في آب 2016 ضد تنظيم داعش، حيث استعادت مدناً في أرياف حلب الشرقي جرابلس والباب، والعملية العسكرية الثانية “غصن الزيتون” في آذار 2018 ضد تنظيم وحدات حماية الشعب (YPG)، ذراع الـ (PKK) الإرهابية، واستطاعت أنقرة خلالها تحرير منطقة عفرين من الميليشيات الانفصالية فكانت هاتين العمليتين إلى حد كبير باعث اطمئنان لأنقرة.
ولكن وبموازاة عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون جرى اتفاق بين واشنطن وأنقرة على وضع خارطة طريق فيما يخص مدينة منبج، تتضمن تسيير دوريات مشتركة لجنود أتراك وأمريكان في المناطق المتاخمة للمدينة، لكن الأمريكان ماطلوا ولم يتقيدوا بنص الاتفاق لتظل الميليشيات الكردية محافظة على وجودها هناك، وتجدر الإشارة هنا أن الأمم المتحدة قد رحبت بوجود المنطقة الآمنة في الشمال السوري، فقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة حينها “أنطونيو
غوتيريش” جميع الأطراف إلى الاتفاق حول المنطقة الآمنة المزمع إنشاؤها في شمال سوريا، وشجع الأطراف “وذلك لمنع صراعات جديدة قد تنشأ”.
سنوات مرت على فكرة إنشاء المنطقة الآمنة في الشمال السوري وكانت تركيا عازمة على تنفيذها بالعمق الذي رأت فيه أنه يضمن أمنها القومي على مسافة 30 كم مقابل مماطلة وتسويف من الجانب الأمريكي.
والآن الرئيس أردوغان يعود لطرح الفكرة مجدداً بعد أن صرح أن الاستعدادات لعملية عسكرية قد تمت وأن أمر اتخاذ القرار لبدء العملية العسكرية يعود إلى مجلس الأمن القومي التركي الذي قال إنه سيجتمع الأربعاء القادم لمناقشة هذه المسألة وإعطاء الضوء الأخضر للبدء بها.
ولكن السؤال هنا، لم هذا التوقيت وما هي دلائله؟
تصريح الرئيس أردوغان بخصوص المنطقة الآمنة وإعلانه عن بدء عملية عسكرية قريبة لفرضها جاء في ظل أزمات وتجاذبات دولية بخصوص ملفات مهمة باتت أنقرة لاعباً مهماً فيها، لا يستطيع أحد تجاوزها في المنطقة سواء أكان هذا في سوريا أو في الحرب الروسية – الأوكرانية أو في مناطق أخرى من العالم.
اللافت في تصريح الرئيس التركي عن قيام تركية بعملية عسكرية في الشمال السوري وعن فرض المنطقة الآمنة وتصريحه بأن الاستعدادات قد اتخذت لشن العملية وتأكيده كذلك على أن الضوء الأخضر لانطلاق العملية سيتخذ في الجلسة التي سيعقدها مجلس الأمن القومي التركي الأربعاء القادم، جاء عقب ساعات قليلة كان قد صرح فيها حول مسألة انضمام السويد وفنلندا لحلف النيتو والذي أبدى فيه اعتراض تركيا على دخولهما لأسباب كان قد ذكرها، وهي دعم الإرهاب ودعم عناصر من الـ (PKK) متسائلاً، كيف لحلف أمني أن يضم دولاً ترعى الإرهاب؟ في إشارة للسويد وفنلندا، وبعد هذا التصريح للرئيس التركي جرت محاولات واتصالات بين الجانب التركي والأمريكي حول هذا الأمر، وكذلك جاء اتصال الأمين العام لحلف النيتو بالرئيس
أردوغان لمحاولة ثنيه عن قراره المتمثل بعدم موافقته على دخول كل من السويد وفنلندا إلى الناتو معتبراً أن دخول الدولتين للناتو فيه مصلحة للحلف وفيه بواعث أمنية، فمسألة دخول السويد وفنلندا للنيتو متوقفة على موافقة تركيا، فعدم موافقتها يعني أن لا إجماع على دخولهما، فالحديث عن المنطقة الآمنة والعملية العسكرية ربما يكون قد جاء لترتيبات معينة جرى التفاهم عليها بين النيتو وواشنطن وتركيا وذلك بأن أطلقوا يد تركيا في الشمال السوري مقابل موافقة أنقرة على دخول ستوكهولم وهيلسنكي الناتو.
إن هبَّت رياحك فاغتنمها..
عدم موافقة تركيا على دخول الدولتين للنيتو كما تأمل روسيا، أو موافقتها على دخول الدولتين للناتو لن يكون بلا ثمن أبداً، فهل ستكون المنطقة الآمنة والتلويح بعملية عسكرية لفرضه بالقوة هو الثمن الذي تريده أنقرة للموافقة على دخول ستوكهولم وهيلسنكي للناتو؟؟ وإن كان الأمر كذلك فقد أدركت أنقرة أن رياحها قد هبت وما عليها إلا أن تستغلها برفع أشرعة سفينتها للرياح التي ستقودها إلى هدفها المنشود.