المقاتلاتُ السّوريّاتُ وجهٌ آخر لضياع الحقوق
دخلتِ المرأة السّوريّة أتون الحرب المشتعلة بعد تحوّل الثّورة السّوريّة من ثورة سلميّة إلى صدام مسلح. بدأت نيران الحرب تشتعل أكثر فأكثر، ولم يعد دورها يقتصر على إعداد الطّعام وتضميد الجرحى، بل حملتِ السّلاح، وكوّنت كتائب مسلّحة، ومليشيات نسائيّة. بعضها يقف في جبهة النّظام، وبعضها الآخر يقف في جبهة المعارضة.
ولعلّ السّؤال المشروع اليوم: هل الصّورة مجرّد مقاتلات بزّيّ عسكريّ يحملن البنادق ويسعين لكسر النّمطية، من أجل تحقيق مساواة جندريّة؟! أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!
لم تكنِ المرأة السّوريّة – على الرّغم من وجود الكليّة الحربيّة للبنات في سوريا – قد دخلت القطاع العسكريّ، فالتّجنيد الإجباريّ حكر على الرّجال، ويمكن لها التّطوع فقط في مجالي الشّرطة والأمن؛ لذلك بقيت بعيدة عن المجال العسكريّ حتّى مجيء الوقت الّذي تحوّلت فيه المظاهرات السّلميّة – المطالبة بإسقاط النّظام – إلى مواجهة عسكريّة، عندها بدأت قوّات الأسد تعلن عن مقتل جنديّات متطوّعات لقتال العناصر الإرهابية – حسب رواية النّظام – يقاتلن ضمن كتائب مثل كتيبة (الجبهة الشّعبيّة لتحرير لواء اسكندرون)، فرّدت عليه المعارضة بتشكيل كتائب نسائيّة تدافع فيها النّساء عن أنفسهنّ – حسب زعم المعارضة – وما بين الرّوايتين نجد هذه الظّاهرة قد تنوعت بتنوّع مكوّنات المجتمع السّوريّ العرقيّة والإيديولوجيّة والمذهبيّة، فتشكّلت كتائب نسائيّة متنوعة وامتدّت لتشمل كلّ الطّوائف،
فالكرديّات قاتلن في (وحدة حماية المرأة) التّابعة لحزب الاتّحاد الدّيمقراطيّ الكرديّ، وكتيبة (لبؤات الجبل) في السّويداء، و(وحدات الحماية النّسائيّة لبلاد ما بين النّهرين) المشكّلة من فتيات السّريان المسيحيّات، و(لبوات الأسد) التي تولّت إدارة الحواجز في حمص على سبيل المثال، و(أمّنا عائشة) التي شكلها الجيش الحرّ، وكتيبتي (الخنساء وأمّ الرّيّان) التّابعتين لتنظيم الدّولة.
ولعلّ النظر إلى هذه الظّاهرة للوهلة الأولى يوحي لنا بأنّ هذه الظّاهرة قد أخذت شكلين متضادّين طبيعيين في تضادّهما: الأوّل المقاتلات الكرديّات اللّواتي يتناسب دورهنّ مع الفكر الماركسيّ اللّينيني الذي يتبناه حزب العمال الكردستانيّ، والثّاني المقاتلات عند النّظام اللّواتي يتبنّين النّهج الذي اتّبعه النّظام في تعامله مع الآخر المعارض له (قتال العناصر الإرهابيّة)، لكنّ الحقيقة الكامنة وراء هذه الظّاهرة تحتاج إلى دراسة معمّقة أكثر.
إنّ هذه الظّاهرة التي يحاول الكلّ التّرويج لها إعلاميّاً، تنطوي على أسباب خفيّة تتعلّق بأطراف الصّراع كلّ على حدة، وتبقى المرأة القاسم المشترك لكلّ هذه الأطراف، قاسمٌ يتّفق الجميع على استغلاله وابتزازه، والإساءة له؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه المرأة السّوريّة للدّفاع عن حقّها المشروع في العدالة، وحُلم الحريّة البعيد، والمساواة الاجتماعيّة في الحياة المعيشة، تجد نفسها قد دخلت إلى الواقع المميت كجنديّة مهدورة الحقوق بشكل عام، حملت السّلاح وضغطت عليه، وأراقت الدّماء، لتخرج بذلك من دائرة الجندر إلى مساواة خطيرة فُرضت عليها، وحمّلتها بُعداً كلّفها الكثير، وسيكلّفها ربّما الأكثر مع قادم الأيام.
تبقى ازدواجيّة المعايير فيما يتعلّق بالمرأة السّوريّة حاضرة، فهي مسلوبة الحقوق في الحياة المدنيّة، وفي الحرب هي رائدة يُمجَّد دورها، ويجب توظيفه، ويبقى استغلالها سيّد الموقف.
سمح لها الجيش السّوريّ الحر بإنشاء كتائب للقتال لإبعاد صفة التشدد عنه، وعند النّظام وجودها يحمل عدّة معانٍ؛ فمن جهة استخدمها لسدّ الفراغ الذي أحدثته الانشقاقات في جيشه، ومن جهة أخرى استغلّ حاجتها الماديّة ولعب على الوتر الطّائفيّ لكسب تأييدها، وولائها له، أمّا عند تنظيم الدّولة، فتظهر في دور الشّرطيّة المتستّرة وراء الدّين، تلاحق النّساء لفرض اللّباس الشّرعيّ عليهنّ، ويستمتعن، وهنّ يقُمن بتعذيب النّساء السّوريّات بساديّة مفرطِة. استطاع التّنظيم أن ينجح إعلاميّاً في جذب النّساء للانضمام إليه من مختلف أنحاء العالم، فجُلّ مقاتلاته أجنبيّات.
تبدو التجربة الأكثر بروزاً هي المقاتلات الكرديّات، ولكنها رغم ذلك لم تنجح في منح المرأة بُعداً مختلفاً عن غيرها من المقاتلات في الصّفوف الأخرى، فاستخدمت للاستعراض، واستثمر حزب الاتّحاد الدّيمقراطيّ (PYD) ورقة النّزعة القوميّة، والحُلم الكرديّ في إنشاء حكومة انفصاليّة ذاتيّة لصالحه، فنجح بتعبئة شعبيّة أدّت إلى تجنيد المئات منهنّ، وانخراطهنّ في قتال داعش (هدف مُعلَن).
كان استغلال البعد الأنثويّ للمقاتلات حاضر الوجود عند كلّ الأطراف، فدُفعتِ العديدات منهنّ لاستغلال إغرائهنّ وأنوثتهنّ في إغواء الضّباط من أجل الحصول على المعلومات، أو لتمرير الأسلحة والذّخائر وكشف خطط الطّرف المُعادي. كما ابتدع تنظيم الدّولة جهاد النّكاح، فأصدر فتوى تجيز ذهاب النّساء إلى سوريا للزّواج بالمقاتلين من أجل التّخفيف عنهم، وهذا بعيد كلّ البعد عن الدّين، بل هو ستار لنوع مبطّن من الدّعارة بغطاء دوليّ.
أمّا نظام البعث فالاستغلال عنده له طقس مغاير شكلاً، مماثل هدفاً، حيث استغلّ المقاتلات لأغراض دعائيّة وهذا الفعل ليس بجديد عليه؛ فهو النّظام العلمانيّ الذي لطالما تغنّى بحريّة المرأة وتمتّعها بكامل حقوقها في ظلّ حكومته.
إنّ تصويره للمجنّدات الثلاث الأنيقات الجميلات عند المعبر الوحيد لخروج المدنيين من الغوطة الشّرقيّة، والجنديّ الرّوسيّ يحدّق بهنّ مبهوراً بجمالهنّ، وظهور زوجة الأسد مع مقاتلات الغوطة في فيديو (ضفائر النّار) تهنئ الأمهات في عيد الأمّ؛ رسالة للعالم مفادها عليكم القلق على هؤلاء الجميلات البريئات، علماً أنّهنّ يظهرهنّ داخل الكتيبة بصورة خالية من أية مظاهر للأناقة أو الأنوثة.
عملت أطراف النّزاع في سوريا على مبدأ (إنّ المرأة هي أفضل طريق لنشر فكر ما)، فجنّدوا النّساء، وهم مقتنعون بما يمكن أن تفعلنه في العمليّات المدنيّة والعسكريّة بجسدهنّ وأنوثتهنّ، مستغلّين في الوقت ذاته وجودهنّ في إقناع المؤيدين بأنّهم على صوابٍ، ويحاربون القوى المُعادية.
يبقى مسار المرأة السّوريّة طويلاً في تغيير الصّورة النّمطيّة التي أُلصِقت بها طوال خمسة عقود من حكم البعث، وعليها القيام بثورتين.. الأولى ضدّ نظام الأسد، والثانية ضدّ المجتمع الذي ما فتئ يعتبرها كائناً ضعيفاً، يمتلك جسداً جميلاً يحقّ له استغلاله وقت يشاء، وحسب ما يشاء.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”