fbpx

المعايير المزدوجة في نقد الحركة النسوية

0 384

يساهم الحوار الوطني الجدي والبناء في تقريب وجهات النظر المجتمعية نحو أهم القضايا الرئيسية، كالنظام السياسي والقانوني والاقتصادي، ومنها قضايا المرأة التي تثير حفيظة واستياء قطاع واسع من السوريين والعرب. فإن لم يخضع الحوار إلى ضوابط صارمة وواضحة تحول إلى مسار تضليلي يشوه الآخر ويسخف قيمه ومبادئه، كما تعمل على ذلك بعض الأصوات الإسلامية الناقدة للحركة النسوية، كالتي يتضمنها خطاب بعض المشايخ والأئمة بغض النظر عن درجة تحصيلهم العلمية. ومنهم خطاب د.إياد القنيبي، الذي جذبني الاستماع لبعض حلقاته اليوتيوبيه المعنونة باسم سلسلة المرأة، بوست على مواقع التواصل الاجتماعي لصديقة ناقمة على خلو الفيديوهات من أي منطق علمي وغياب أمانة المتحدث البحثية، لتعبر الفيديوهات عن سلطة ذكورية بحتة لكنها مغلفة برداء قد يجذب بعضهم. حيث يفرض المتحدث معركة وهمية مع عدو مختلق ومصطنع يسهل على المخاطب التهجم عليه، دون أي عناء يذكر، والأهم دون أي رقيب أو حسيب. إذ يسهل في مثل هذا النمط الحواري المصطنع؛ أو بالأصح التضليلي؛ انتزاع  الروايات والأحاديث والأرقام الإحصائية الغربية من سياقها التاريخي والواقعي والإخباري، واعتبارها نموذج عن الحركة النسوية وأهدافها، وهو ما يتجاهل أن نشر غالبية هذه الأرقام كان حصيلة النضال النسوي في تلك الدول بهدف فضح الخلل القانوني والمجتمعي والإعلامي الذي ساهم في تلك الوقائع أولاً، ومن أجل حشد المجتمع للنضال الجدي بغرض حماية النساء من هذه المظاهر المدانة ثانياً، وذلك عبر تطوير وتعديل القوانيين والصلاحيات بما يضمن ذلك.

إذ يستند هذا المنطق التضليلي إلى معايير مزدوجة، تحاسب الحركة النسوية وفق حيثيات الواقع النسوي في الدول الغربية، بينما يعرض مسألة المرأة وفق بنود النص الإسلامي بغض النظر عن مدى تطبيقه وحدود فهم الأئمة له. ما يتجاهل مجمل الوثائق والمطالب النسوية، أي يتم تجاهل المنظومة القانونية التي تناضل الحركة النسوية من أجل فرضها غربياً وعربياً عن عمد، وتصوير الواقع المدان والمرفوض من قبل الحركة النسوية كواقع فرضته الحركة النسوية. وهي شكل من أشكال الكذب المنمق وغالباً الواعي، الذي يقصقص الآخر وفق الشكل الذي يتطلبه النقاش المفترض، كي يتناسب مع قدرات المقدم المحدودة في النقاش والنقد. بينما يتجنب بل ويرفض عرض أي من الأرقام والإحصاءات العربية المخزية حول الواقع النسوي، متذرعاً بأن الأولوية الآن لفهم ودراسة النص الشرعي بغض النظر عن مدى تطبيقه ومدى اتساع وتناقض التفسيرات الشرعية له. أي يرفض د.إياد عرض أو حتى نقاش منظومة الحركة النسوية السياسية والقانونية، رغم إصراره على عرض المنظومة التشريعية الإسلامية وفق نصها النظري فقط. ويحاكم الحركة النسوية من مظاهر ظلم المرأة في الدول الغربية، في مقابل هروبه من محاكمة مظاهر الغبن والظلم بل والإجرام بحق النساء في المجتمعات العربية ذات الانتماء الإسلامي.

قد يقول قائل، مستنداً لتسويف د.إياد أن منظومة القوانين والحكومات الغربية وضعية، بمعنى أنها لا تستند إلى منظومات تشريعية دينية إلهية، لذا يصح محاكمة الحركة النسوية وفق وقائع المجتمع الغربي، وهو كلام صحيح لكنه مجتزء مرة أخرى ومضلل، فالحركة النسوية تهدف إلى إقرار قوانيين تحترم المرأة وتقر بحقوقها المتساوية مع الرجل وتقوض منظومة استغلال القوي للضعيف، طبعاً القوي مجتمعياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً، بغض النظر عن جنس المستغل والمُستغل، وبالتالي لا يمكن محاكمة الحركة النسوية على أي قانون وضعي في أي بقعة جغرافية كانت، بل يجب محاكمة القانون الوضعي الذي تطرحه الحركة النسوية، وفق المنظومة القانونية والسياسية التي تدعو وتناضل من أجلها. كما يجب على د.إياد وعلى مريديه التنبه إلى أن معظم دولنا العربية تستمد منظومتها القانونية والسياسية من الشرعية والتشريع الإسلامي، وإن اختلفت درجات الاعتماد عليها من دولة إلى أخرى، ما يجعل الواقع النسوي العربي الراهن نتاجاً مباشراً لهذه المنظومة جزئياً أو كلياً.

في الختام لا أعتبر مقالي هذا مفتاحاً لحوار مجتمع سوري أو حتى عربي جدي حول حقوق المرأة وأهميتها على مستقبل سورية والمنطقة، بقدر ما يسعى إلى تسليط الضوء على الخلل المنهجي المتعمد الذي يلجأ له بعضهم في تشويه الحركة النسوية، ما يقوض القدرة على تطوير الحوار الجدي والمثمر بين مكونات المجتمع ذاته. من خلال تحميل الحركة النسوية مسؤولية الواقع الرديء أو المجحف الذي تناضل النسوية من أجل تغييره. أو من خلال وصمها؛ أي الحركة النسوية؛ بصفات وشعارات لا تعبر عنها كاملة، حتى لو كان بعضها مطلب لبعض فئات الناشطين والناشطات في الحركة النسوية. فالحركة النسوية كأي حركة سياسية أو اجتماعية لها وجهات نظر عديدة ومتعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أي من بعض الحركات التي تتبنى مطالب حقوقية مجتزأة فقط، إلى تلك التي تغالي في مطالبها، وما بينهما من طيف واسع من التباينات الجذرية والثانوية.

لذا على أي محاكمة جدية وواقعية للحركة النسوية أن تبدأ في نقاش أهداف الحركة الأساسية أولاً كحماية المرأة من العنف الجسدي الأسري وغير الأسري، عبر قانون جنائي صارم تجاه هذه المظاهر البشعة والإجرامية مهما كان مصدرها، زوج؛ أب؛ أخ؛.. الخ، وحماية المرأة من الاستغلال الجنسي المتمثل في تسليع الجسد الأنثوي لأغراض المتعة الجنسية أو الربح التجاري السريع، ومن خلال الزواج القسري دون موافقة؛ أو بموافقة تحت الضغط؛ واستغلال المرأة لأغراض مالية أو جهوية تافهة لا تكترث بقيمة ومكانة ورأي المرأة، الذي يتطلب تعزيز دور الدولة الاجتماعي والقضائي تجاه جميع مواطنيها وعلى رأسهم النساء. وأيضاً بما يخص حماية المرأة من الاستغلال المالي، المتمثل في تفاوت الأجور والتوظيف أو الترقية في السلم الوظيفي استناداً لمعيار الجمال والجاذبية الجسدية بدلاً من معيار الكفاءة والأداء الوظيفي، وهو ما يتطلب رقابة ومحاسبة في جميع الدوائر والمؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء. دون أن ننسى حقوق المرأة الطبيعية والبسيطة كالحق في التعليم والاختيار والعمل والتنقل والاستقلالية، ومئات القضايا والملفات اليومية الأخرى التي تتطلب عرضاً منفصلاً لا يتسع المجال لها الآن. ونرجو من المتخوفين والمتوجسين من الحركات النسوية الاطلاع عليها أولاً، ونقاش مضمونها ثانياً، بعيداً عن لغة الكذب والتضليل التي يلجأ إليها بعض مدعي المهنية والأكاديمية والموضوعية. فنحن بأمس الحاجة إلى تشجيع النساء العربيات على نقد وفضح واقعهم السيئ بغرض تغييره في المستقبل القريب، بدلاً من بث الرعب في نفوس النساء المناضلات والمدافعات عن حقوق النساء، عبر تحقيرهن وتسفيههن أحياناً، وتكفيرهن أحياناً أخرى ما يعرضهم لخطر القتل.

 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني