المزاج كمعول للتفلسف
لعل الشيء العملي الأكثر أهمية بخصوص الإنسان هو نظرته إلى الكون، بمعنى كيف يتفلسف في حياته، وما هو رأيه الفلسفي في مختلف مناحي الحياة. فعلي سبيل المثال، قدّ نعتقد أن صاحب الدار الذي يبحث عن مستأجر لمنزله، أو إحدى الشقق التي يقتنيها، يجب أن يعرف مقدار ما سيدفعه المستأجر من رسوم شهرية، ويضمن عدم التأخير في دفع الأجر الشهري. لكن ما هو أعم من ذلك معرفة فلسفة هذا المستأجر /الجار الجديد/ تماماً كما هو الحال والقائد العسكري الذي تظن الغالبية أن معرفة عدد وعدّيد جند العدو هو الأهم بالنسبة إليه، بيد أن معرفة فلسفة هذا العدو أكثر أهمية.
لدى كل فرد فلسفته الخاصة، والأكثر أهمية معرفة الطريقة التي تعتمد عليها هذه الفلسفة، كحياة ومنظور كل فرد إلى العوالم المتعددة. خاصة وأن الفلسفة واحدة من أكثر الاهتمامات البشرية سمواً وضآلة معاً. فهي تعمل في أصغر الزوايا المظلمة وتسعى صوب وعيٌ لتفتح آفاقاً واسعة. صحيح إنها لا تصنع خبزاً كما قيل، لكنها تمنح أرواحنا الشجاعة. وهي بنظر العامة بغيضة كما في أساليبها، وسلوكها، وتشككها، وتحديها، وفي انتقادها وجدليتها، بيد أن شعاع ضوء الفلسفة المنتشر بعيداً يعم آفاق العالم، ويحمل آثاراً مغايرة للظلمة والغموض، تعطي اهتماماً يفوق كثيراً أي اهتمام مهني.
فغالبية النظريات الفلسفية والآراء المعللة للكون، وسائر الأحاجي والأفعال إنما قدّ تخضع لمزاج المتفلسف، حيث أن تاريخ الفلسفة وتحديداً وفق “وليم جيمس” هو تاريخ صراع للأمزجة البشرية إلى حد كبير. حتى لو قلنا إن هذه النظرة بعيدة عن الواقعية، منطلقين من قناعات أو دراسات قام بها أحدهم، لكن حتى هذه في كليتها تعتمد على الحدس والمزاج والرأي الخاص أيضاً، ما يؤكد أن للمزاج البشري دور مهم في التفلسف فعلاً. هذا الصدام في التفلسف لو أخذ بعين الاعتبار لوضحَت بعض الفروق بين الفلاسفة بسببه، وسيقول أحدهم: الفيلسوف المحترف، أياً كان مزاجه، سيتجاهل حقيقة مزاجه الخاص حين البحث في الفلسفة، وأن المزاج الشخصي لا يغدو كونه سبباً معترفاً به تقليدياً في عالم الفلسفة، وأن التجرد من الآراء الشخصية المسبقة هو الأهم في كتابة تاريخ الفلسفة والنظريات الفلسفية، لكن بالمقابل أيضاً فإن أيَّ فيلسوف يمنحه مزاجه الخاص القائم على تشكيل القناعات والأفكار نتيجة تأملاته وأفكاره وقراءاته الخاصة، فيمنحه انحيازاً أشد قوة من أيَّ افتراض لديه يكون موضوعياً، والأسباب اللاشخصية غير المزاجية تنحصر عند الاستنتاج فحسب، وربما هي لتوكيد فكرته.
هذا المزاج الفلسفي الشخصي يقود إلى نظرة خاصة بصاحبها لذلك نجد الفروقات بين الفلاسفة حول رؤيتهم للحياة، عاطفية أو أشد قسوة للعالم حوله أكثر مما قد تعطيه حقائق أو مبادئ. والدليل على ذلك أن حياة الفلاسفة أو المتفلسف تختلف عن أقرانهم. فهم يثقون بمزاجهم وحساسيتهم ويبحثون عن عالم يناسبهم، ويؤمنون بأي تمثيل يروق لهم لهذا العالم. ويرون أو يشعرون أن أشخاصاً ذوي مزاج يختلف عن مزاجهم غير منسجمين مع طبيعة العالم، بل يصفونهم عبر أحاسيسهم الداخلية بأنهم غير قديرين وأنهم خارج العمل الفلسفي. ومن الممكن أن يكون بين هؤلاء الناس من يمتلكون قدرات تفوقهم في المقدرة على الديالكتيك، وهي تحتاج إلى قدرات شخصية كبيرة، وأيضاً مزاجاً شخصياً يفوق المزاج الشخصي للفيلسوف. علماً أن المزاج الخاص لا يمنح الجميع قوة الادعاء بامتلاك بصيرة فائقة أو قوة إقناع تبتز سواه، إلا أشخاصاً مميزين جداً، لهم خصوصيتهم المتطرفة، تركوا بصمتهم وصورتهم في الفلسفة أو في حقل آخر من حقول العلم المعرفة والكتّابة، ولهم أهميتهم الواضحة في تاريخها. هذا المزاج الذي يرسم خطوط التشبيك مع العالم الخارجي، يشترك فيه الفيلسوف مع المثقف مع السياسي الناجح، ويتطفل عليهم دخلاء عالم المعرفة والكتّابة، للادعاء بأنهم أصحاب مزاج خاص، فيسعون لتقديم صورة عن أنفسهم، مغايرة لحقيقتهم الرديئة.
عامياً، نحن لا نملك مزاجاً فكرياً محدداً، بل نحن خليط من عناصر متنافرة، كل واحد منها حاضر باعتدال. وقلما نعرف أفضلية أي منها في المسائل المجردة، بعضهم ينظر ويستسهل دخوله في تعريفات سهلة متعارف عليها بخصوص تلك المسائل، أو يتبنى ما يعتقده فيلسوف يعد الأكثر تأثيراً في الجوار.
وحتى هذه التفاصيل تخضع لمزاج خاص يختلف من شخص إلى آخر، وحسب تعمقه في الفلسفة أو العلوم الأخرى، فالمرء يحب أن يرى الأشياء بطريقته الخاصة مباشرة، وليس من الحكمة أو القوة الدعوة للافتراض بأن الرؤية المزاجية القوية للأشياء لم يعد لها من الآن فصاعداً أهمية في تاريخ معتقدات المرء. علماً أن المتحدث حين يقصد اختلاف الأمزجة فهو يُشير بطبيعة الحال إلى الاختلاف الوارد ذكره كثيراً في الأدب والفن والحكم والسلوك وفي الفلسفة أيضاً. ففي السلوك نجد هؤلاء الشكليين المتمسكين بالأشكال الخارجية والأشخاص المتحررين والعفويين، وفي الحكم نجد السلطويين والفوضويين، وفي الأدب نجد الصفائيين الحريصين على صفاء اللغة والأسلوب كما يوجد الواقعيين والأكاديميين، وفي الفن نرى أصحاب المذهب الكلاسيكي إلى جانب الرومانسيين. هذه المفارقات ربما تكون مألوفة، بيد أنه في الفلسفة نوع آخر من المفارقات المماثلة يجري التعبير عنها بثنائيات الألفاظ وهي في داخلها مبنية على المزاج مثل العقلاني والتجريبي.
فالتجريبي يعني عشق الحقائق بما فيها من تنوع فج غير مصقول. والعقلاني يعني المتمسك بالمبادئ المجردة والخالدة. وأي منا لا يستطيع العيش دون حقائق ودون مبادئ ولو لساعة واحدة. لكن الأمر يُصبح مريحاً وربما على نحو استثنائي عند الحديث عن تباين معين في طرائق الناس في نقلهم لمعالمهم وذلك من خلال الحديث عن المزاج التجريبي والمزاج العقلاني وهو على ذلك فإن هاتين المفردتين تجعلان هذا التباين بسيطاً.
يمكن القول: العقلانيون ذوو مزاج عقدي دوغمائي في تأكيداتهم، بينما قدّ يكون التجريبي أكثر تشككاً وأكثر انفتاحاً على المناقشة والاختبار. أي أن التجريبيين يُسمَون أصحاب الواقعية، والعقلانيين يُسمَون أصحاب المشاعر والأحاسيس. وربما يمكن إدراج مزايا الصنفين في لائحتين ولهما أهمية قصوى في التكوين الذهني والمزاجي. الأول هو العقلاني صاحب الذهن والمزاج الحساس الرقيق وصفاته عقلاني يتصرف حسب ما تمليه عليه المبادئ من مثل متفائل، حر الإرادة، عقدي دوغمائي. والثاني تجريبي صاحب ذهن تجريبي المزاج والتفكير وصفاته تجريبي أي يهتدي بالحقائق والخبرة والتجارب ويتبع المذهب الحسي المادي، متشائم، تعددي.
هذا الصراع بين الجانبين يعتمد على مزاج كل شخص. ووفق ما يراه مناسباً ووفق ما يقدمه من حجج وبراهين حيث أن أصحاب الذهن واقعي المزاج /التجريبي/ يرون أصحاب الذهن الرقيق/العقلي/، أناساً عاطفيين وحمقى، أما أصحاب الذهن الرقيق فيرون ذوي المزاج الواقعي أشخاصاً بعيدين عن التهذيب ومتوحشين وقساة.
لذا فكلنا لدينا تشوق شديد للأشياء الجيدة على كلا جانبي الفرز، الحقائق شيء جيد والمبادئ شيء جيد. والعالم دون شك، واحدٌ إذا نظرت إليه بطريقة معينة. وهو متعدد وكثير إذا نظرت إليه بطريقة أخرى.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”