fbpx

القضايا النسوية من زاوية وطنية

0 352

يتفق جزء كبير من السوريين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم الدينية والفكرية حول أهمية ومركزية دور المرأة في البناء المجتمعي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، سواء في مرحلة الثورة أو في المرحلة اللاحقة. في حين تبرز الخلافات والتباينات حول تحديد المعيقات الاجتماعية والسياسية والقانونية التي تواجه المرأة، وحول سبل معالجتها، نتيجة جملة من العوامل التي تقصي جوهر الخطاب النسوي الثوري والحقوقي، وتحرفه عن مساره الوطني نحو مواضع وأماكن أخرى.

حيث يواجه الخطاب والنضال النسوي في سورية والمنطقة العربية عموماً، محاولات تأطيره وقولبته وفق منظور ديني، وخصوصاً إسلامي، ينطلق من كون الإسلام معبراً عن الهوية الوطنية، إذ يتم فرض الدين والإسلام تحديداً كمرجع تشريعي وحيد ومحدد مركزي؛ وأحياناً وحيد؛ في صياغة الهوية الوطنية. استناداً إلى منطق كمي يعكس حجم مكونات المجتمع الرئيسية المفترضة أو بالأصح المنتقاة، ليفرض بعض الساسة والأئمة ورجال الإعلام هوية دينية أو طائفية أو قومية أو أيديولوجية على المجتمع وفق أهواء ومصالح المتحدث، وأحياناً وفق المرحلة. وهو ما يتناقض مع مضمون الهوية الوطنية، كهوية معبرة عن كل؛ لا عن جزء؛ مهما كان حجمه النظري، أي هي هوية جامعة لجميع تباينات واختلافات وتنوعات الهويات الفردية المكونة لمجمل المجتمع. لذا لا تعبر الهوية الوطنية عن مدلولات قسرية إقصائية دينية أو أيديولوجية أو حتى قومية، بل هي تعبير عن حق وواجب المواطنين في المشاركة في بناء وصيانة وحماية الدولة وفي الاستفادة من خيراتها وإمكانياتها وفق أسس عادلة ومتساوية بين جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن قناعات وانتماءات كل منا. على اعتبارها مسائل خاصة لا يجوز فرضها على المجتمع، كما لا يجوز فرضها من قبل المجتمع على أي من أفراده، سواء على صعيد القناعات أو الممارسات التي تتناقض مع منظوره وهويته الفكرية والثقافية الفردية.

وبالتالي وبالعودة إلى فرض الرؤية الإسلامية على أي حوار يطال النساء وحقوقهن، نلاحظ أن ذلك يدفع الحوار في كثير من الأحيان من نقاش حقوقي بسيط وواضح، إلى نقاش معقد ومركب يحاول الموازنة بين القراءات الشرعية الإسلامية وقواعد الاجتهاد ومتطلبات العصر، ما يدخل الحقوق النسوية في متاهات لا نهاية لها، ويحول الحركة أو الخطاب النسوي، من خطاب حقوقي يسعى إلى رفع الظلم والغبن الممارس بحق المرأة، إلى خطاب تبريري يحاول نفي تهم التكفير والعمالة والخيانة. فالمرأة جزء مهم من بنية المجتمع والدولة، وعلى الدولة ضمان حقوق هذا الجزء من ناحية، وتهيئة الظروف والأوضاع المناسبة لإطلاق طاقات النساء المكبوتة كُل واحدة حسب قدرتها ورغبتها وإرداتها من جهة ثانية. بمعنى يجب أن ينطلق الحوار الوطني بخصوص حقوق المرأة من الإقرار بأهمية دور المرأة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وبما يصون الحق الفردي في تمتع النساء بجميع هذه الحقوق أو حتى في التخلي عن بعضها؛ وهذا يطرح أهمية تثقيف النساء بحقوقهن وأهميتها كي نحد من مظاهر تخلي النساء عن حقوقهن؛، وفق ما تمليه عليها قناعاتها وانتمائاتها الفكرية والأيديولوجية والعقائدية، دون أن ينتقص ذلك من حقوقها ومن واجب الدولة والمجتمع تجاه هذه الحقوق، ودون أن يلغي ذلك حقها في العودة للاستفادة من كامل حقوقها أو من جزء إضافي منها مستقبلاً وبكامل إرادتها. فإقرار حقوق النساء ودعم الحركة النسائية لا يأسر قدرة النساء المتدينات على ممارسة منظورهن الخاص، كما لا يفرض عليهن نمط حياة محدد يعارض ويناقض منظورهن الثقافي والديني.

كما يواجه الخطاب الحقوقي النسوي معضلة ثانية تحت عنوان أخلاقي مضلل، حيث يدعي بعضهم أن غرض الحركات النسوية والمدافعين عن حقوق المرأة فرض قوانين تتناقض مع أخلاق المجتمع العربي والإسلامي، تتمثل في شعار حرية المرأة الشخصية والجسدية، التي يعتبرونها التفافاً وتحللاً أخلاقياً وغايتها المتاجرة بالجسد الأنثوي تحديداً. حيث يلجأ أصحاب هذا المنطق إلى طمس جذر النضال النسوي، كنضال يسعى إلى بناء مجتمع عادل ومتساو في الحقوق والواجبات، وأنه جزء من مجمل النضال الثوري والعربي الساعي إلى تأسيس دولة العدالة والمساواة الاقتصادية والاجتماعية وطبعاً السياسية. وبالتالي فهو جزء من كل أعم، يتأثر ويؤثر بهذا الكل، وبالتالي فهو يرفض جميع أشكال الاستغلال والمتاجرة بالبشر، كما يرفض الاضطهاد والظلم والغبن الممارس على أي مكون من مكونات المجتمع، بما فيها النساء أو بالأصح وعلى رأسها النساء.

بل يمكن القول إن تجريم المتاجرة بالبشر وأجسادهم أمر لا خلاف حوله، وخصوصاً بأجساد النساء، لكن الخلاف حول السبيل إلى ذلك. ففي حين يهرب بعضهم من حل ومواجهة جذر المشكلة، عبر حبس النساء ومنعهن من التعلم والعمل وفرض نمط محدد من الرداء، نجد من يحدد المشكلة كاملة ويبحث عن حل حقيقي وواقعي لها، مستنداً إلى فشل الممارسات السابقة في وقف المتاجرة بالجسد النسوي وإن اختلفت طريقة المتاجرة، كما يحصل في زواج القاصرات، وزواج الفقيرات بالأغنياء بضغوط عائلية بحثاً عن المال، فضلاً عن أوجه متعددة لاستغلال أصحاب رؤوس الأموال لحاجات العائلات الفقيرة وخصوصاً النساء. حيث يعبر انتشار هذه المظاهر وغيرها من المظاهر في مجتمعاتنا عن فشل ذريع في حماية المرأة رغم وئدها اجتماعياً وسياسياً أو على الأقل محاولة وأدها كما يفعل المتذرعون بالخطاب الأخلاقي، لأنهم هربوا من مواجهة الخلل الرئيسي المتمثل في خلل ميزان العدل والمساواة المجتمعية والاقتصادية، تجاه المرأة وتجاه الجزء الأكبر من المجتمع المحلي.

حيث يصعب على المجتمعات التي تعاني من تفاوت كبير في مستويات الدخل بين مكوناتها ومن غياب العدالة والمساواة الاقتصادية والاجتماعية، تحقيق أي شكل من أشكال العدالة بما فيها الفئوية، بسبب حاجة الضعيف للقوي، الضعيف كالمرأة والمفقرين من العمال والفلاحين وعموم المجتمع، والقوي كالزوج والأب والأخ وأصحاب رؤوس الأموال والمسؤولين الأمنيين والسياسيين وغيرهم من أصحاب النفوذ. وعليه فإن القضاء على مظاهر المتاجرة بالجسد الأنثوي تتطلب النضال من أجل بناء مجتمع عادل وحر يتساوى فيه جميع أبنائه في الحقوق والواجبات والإمكانيات، نساء ورجالاً؛ عمالاً وسياسيين، كما يتساوون أمام القانون دون أن تميز كان، بدلاً من اللهاث خلف عناوين خادعة تخفي الجذر الحقوقي المركزي، وتحجب تعمد بعض الفئات المحدودة إعاقة مسار العدالة والمساوة والحرية الفردية والجماعية في سورية المستقبل.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني