القانون مرآة الحضارة
تصدر القانون واجهات الدول منذ نشأتها الأولى كنتاج للقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفاعلة والمؤثرة فيها بشكل عام بعد تدرجه من مجموعة عادات وتقاليد وأعراف الى قواعد ثابتة تحكم سلوك الافراد ، لكنها بالوقت نفسه ناجمة في بعض الأحيان عن مجموعة الأعراف والتقاليد التي تقيد سلوك الفرد المائل غالبا للفوضى والانا ، فتضبطه و تقيده ليكون منسجماً مع اخلاقيات الجماعة ومصلحتها.
نستطيع القول إن القانون هو المؤثر في الاخلاق ونذهب أبعد من ذلك لوصفه بصانع الاخلاق ومقياس الحضارة والرقي لأي دولة ثم للمجتمع ، وهنا لابد من التأكيد على ما سبق لمن يقول :إن المجتمعات هي التي تسن القوانين وتصنع الحضارات ودليله أن دول العالم الثالث متخلفة ويعذوا ذلك الى أن مجتمعاتها متخلفة ، ويضربون مثلاً (الفرد في الدول المتخلفة يعيش في نظافة شخصية لنفسه ومنزله وبنفس الوقت لا يتقيد بالنظافة العامة ولا يحرص على المرافق العامة ، وبالتالي لا يتقيد بالضوابط والقواعد القانونية ، بينما الفرد بالدول المتحضرة والمتقدمة نجده يتقيد بالنظافة العامة كتقيده بنظافته الشخصية ونظافة منزله بل واكثر وحريص على المرافق العامة كحرصه على ملكه الخاص لذلك نجده ملتزم بالقوانين ويحترمها.
تلك الآراء مستمدة من النظرة الفردية وليست نابعة من منظور علمي ناتج عن التحري والبحث والتقصي العلمي ، بل الهدف هو الهروب من المسؤولية التي تتحملها الأنظمة الحاكمة في الدول المتخلفة في إبقاء مجتمعاتها وشعوبها على حالة من التخلف والتركيز على النزعة الفردية ، فالقصد من هذا التعليل الدفاع عن هذه الأنظمة وتحميل المسؤولية عن تخلف هذه المجتمعات الى المجتمعات نفسها ، وهذا طبعا يجافي ويخالف الحقيقة ،فالمسؤولية في الالتزام بالقوانين ترجع الى السلطة الحاكمة وطبيعة النظام القائم في دولة ما ،لأنه من البديهي ان الالتزام بالقوانين يكون بسيادتها فإذا كان الحاكم من يخرق القوانين رغم انه هو المشرع لها فمن الطبيعي ان ينسحب ذلك الى الإدارات العامة ومنها الى الافراد وبالتالي المجتمع ككل ، فهل يبنى على ذلك بالقول إن اخلاق الفرد هي التي تصنع القوانين وتلتزم بها وبالتالي تصنع الحضارات .لا يمكن الاستكانة لهذا القول فالإنسان بطبيعته ميال للفوضى واناني ،فالأخلاق تربية ونهج يبدأ بالقوانين التي تفرض القيود على السلوك وتضع الضوابط والعقوبات في حال مخالفة هذه القوانين وبالتالي يلتزم الفرد بتطبيقها بداية خوفا من العقوبة ومع الوقت يصبح سلوك وعادة ثم اخلاق والدليل ان مواطن ما من دولة متخلفة لا يلتزم بالقوانين النظافة العامة في بلاده بينما عندما ينتقل الى دولة حضارية يسودها القانون نجده يلتزم بقوانين النظافة العامة مثلاً ، فالعبرة اذاً ليس بالفرد بل بالقوانين ومدى سيادها والالتزام من قبل النظام الحاكم فيها ،او بالأحرى الرابط بين الفرد والدولة هو الذي يحدد ويبنى سلوك هذا الفرد وبالتالي اخلاقه وهو المعيار لقياس مدى حضارة هذه الدولة.
إنه رابط المواطنة الذي يعني سيادة القانون ، فعندما يشعر المواطن أن القانون يطبق على الجميع كأفراد وكمؤسسات دون ان يعلوه احد يولد ذلك شعور لديه بالرضى والقبول والالتزام بالقوانين السائدة فالمواطنة تعني المساواة والعدالة وحين تكون العدالة والمساواة تكون الحضارة وهذا يقودنا الى ان القوانين العادلة والحضارية تنبع عن سلطة عادلة وحضارية .
والامثلة كثيرة للمقارنة بين الدول من حيث رقي قوانينها، كيف كان ناتج عن رقي نظام الحكم فيها وهذا مثال من واقعنا العربي دولة تونس كمثال بسيط ومقارنة بسيطة مع كل من السعودية او سوريا . حكم تونس الرئيس الحبيب بورقيبة المحامي المتمتع بالفكر الأوربي والمشبع التأثر بالثورة الفرنسية ، والحضارة الاوربية ، و بالقوانين الفرنسية نتيجة إقامته بباريس قبل استلامه للحكم في تونس ، فماذا فعل الحبيب بورقيبة لتونس ؟. حدث في قوانينها وفصل بين الدين والدولة وكان حريصا على الوصول للمساواة التامة للمرأة بالرجل بالحقوق والواجبات ، فكان لهذا التغيير والتحديث اثره البالغ الذي رفع من شأن تونس كأول دولة عربية تحترم حقوق المرأة وتؤسس لدولة علمانية . حصد ثمار هذا الانفتاح والتطور بالقوانين والدستور الشعب التونسي أفكار وانجازات الحبيب بورقيبة، وتميز عن اقرانه من الدول العربية ، والتي لا تختلف عن تونس من حيث تكوين المجتمع وعاداته وتقاليده ومعتقداته كسوريا او السعودية كمجتمعات مسلمة وعادات وتقاليد متشابهة ، والتي تختلف من حيث القوانين ومدى حضارتها ومكانة المرأة فيها ، فلا مصلحة للأنظمة فيها بتحديث وتطوير القوانين بل سن القوانين والدساتير بما ينسجم مع مصلحة الحكام فيها .
مع العلم ان سورية في الخمسينات عاشت مرحلة من الديمقراطية واتجهت للتطور بالقوانين والتشريعات ، الى ان جاء البعث فأعادها الى الخلف وزاد الطين بلة حكم عائلة الأسد وغياب كلي لسيادة القانون ، وانتشار الفساد وبالتالي تدني في الاخلاق العامة لعدم الشعور بالمواطنة ، فغياب العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أدى الى خلق عداء بين المواطن والمؤسسات العامة فلا يشعر انها ملكية عامة بل هي ملك الحاكم (سورة الأسد) فالمواطن يشعر انه في مزرعة وليس في دولة ، وهذا أدى الى الفساد العام ، وتبرير لجرائم سرقة المال العام (الرشوة اختلاس ) وبالتالي تدني للأخلاق أيضا غياب الحرية السياسية وعدم وجود قوانين أحزاب وغياب حرية الرأي أدى الى خلق طبقة من المتسلقين والانتهازيين وكتاب التقارير، فكان لذلك اثره على خلق شرخ بين طبقات المجتمع وتفسخ اجتماعي و لغياب المجتمع المدني غالبا وإن وجد فالحاجز الأمني له بالمرصاد .
ولا يختلف الامر عنه بالسعودية بل اكثر تخلف عنه في سوريا حيث القانونين والتشريعات تعود الى /1400/ سنة، كدولة دينية تستمد قوانينها من التشريع الإسلامي منذ ذلك التاريخ عند نشوء الإسلام . لكن الملفت للنظر ان السعودية بدأت بالانفتاح بتطوير قوانينها ونظامها التشريعي لتكون منسجمة اكثر مع التطور العالمي نوعا ما عما كانت عليه، بينما نظام الحكم بسورية اخذ بالتراجع والتقرب من الفكر الديني الإسلامي والرجوع للقيود اكثر مما هو عليه بقصد الحفاظ على السلطة.
في هذا السياق تتضح الصورة اكثر حيث تنعكس صورة القوانين والتشريعات على المجتمعات وتحدد مدى تطورها وتقدمها فالتشريعات العادلة حتما تنتج مجتمعات مبدعة منسجمة ومتصالحة مع نفسها اكثر قابلة للتطور والانفتاح تؤمن بالديمقراطية كخيار حضاري للشعوب والدول.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”