fbpx

الفقد الكبير في بناء الطفل السوري في زمن الحرب

0 313

لا تزال علوم التربية وعلم النفس ترصد باستمرار الآثار النفسية والتربوية التي تقع على الأطفال عموماً، من الذين يعيشون في بيئات غير مستقرة، نتيجة حرب داخلية في بلدانهم. هذه الحرب التي تسبب دماراً مادياً، تترك آثاراً نفسية، يظهر تأثيرها في بنية الطفل لاحقاً أو آنياً، كخللٍ أو حالاتٍ مرضية أو سلوكية اجتماعية.

لقد وجد الطفل السوري نفسه في شروط حياتية فرضتها الحرب الدائرة في البلاد، هذه الشروط تتجاوز بنيته التي هي في طور التشكّل والبناء، وهذا ما تريد هذه المقالة أن تشرحه، لأنه يتعلق بنتائج ذات مردود سلبي على المجتمع إن لم يحاول سدّ التفاوت في الفقد النفسي والتربوي الذي ألمّ بالطفل نفسه.

الطفولة مرحلة من مراحل حياة الفرد، ولكنها مرحلة حاسمة على صعيد بناء ركائز قيمه الكبرى، فالطفل ما بين سن الثالثة والسابعة يرسخ في ذاته القيم الأساسية التي ترتكز عليها لاحقاً سلوكياته ومفاهيمه، فهو يتعلم في هذه السن معنى الثقة والصدق والمحبة والمقبول اجتماعياً من السلوكيات أو المرفوض منها.

ربما هناك من يحيل الطفولة إلى مربع أجمل مراحل حياة الانسان، والمقصود فيها هو عدم تحمله لمسؤوليات الحياة قبل بلوغه سن الثامنة عشرة. ولكن هذه النظرة خاطئة بجوهرها، لأن الطفل يتمّ تدريبه اجتماعياً في الأسرة والمدرسة، ويكتشف نفسه مع بقية الأولاد في الشارع والحديقة وأماكن اللهو. 

هذه الحالة الطبيعية وظروفها لا تبقى كما هي في ظل الحرب، وتحديداً الحرب الداخلية، فالظروف تتغير بدءاً من تغير المسكن، وتغير الأصحاب، وتغير شروط المأكل والملبس والنوم واللعب وغيرها، يحدث ذلك في حالة اللجوء الخارجي إلى البلدان المجاورة، أو في حالة النزوح الداخلي إلى مناطق لا تشهد حرباً.

ولكن ما الذي يحدث للطفل؟ وما الذي يفقده جرّاء هذا التبدل الحياتي القسري، وما آثار ذلك على بنيته النفسية والعقلية ونتائجها الاجتماعية لاحقاً.

هذه التبدل المفاجئ القسري بالنسبة للطفل، يفقده اعتياده للبيئة التي عرفها، وللأشياء التي اختبرها، ويفقده علاقاته الاجتماعية التي نشأ فيها وتتشابه مفاهيمها بالنسبة إليه مع مفاهيمه.

التبدل المفاجئ نتيجة الحرب، يخلق فراغاً أمنياً لدى الطفل، منشأ هذا الفراغ هو جهله البيئة الجديدة ومخاطرها عليه، واضطراره لإعادة التآلف النفسي مع مفرداتها، التي تختلف بالضرورة مع مفرداته السابقة المعتادة بالنسبة له.

هذا الخلل الحاصل نتيجة تغيير البيئة الاجتماعية، إضافة إلى ما تتركه حالة الرعب في نفس الطفل نتيجة رؤيته لمشاهد تفوق قدرته على الفهم، مثل سقوط البراميل المتفجرة، وتناثر الجثث وتمزقها أو إعدام الناس، هو من يجعل الطفل في حالة نفسية جديدة، غير متكيفة مع الظروف التي يعيشها بعد مغادرته بيته وحارته وأصدقائه وأمكنته المعتادة.

هذا الخلل ينتقل مع الطفل إلى حجرة الدرس، فيكون عدم قدرته على التركيز بدروسه وكأنه درجة منخفضة من الذكاء، وهذا قياس يقع فيه المعلم إذا لم يحاول سبر ظروف حياة هذا الطفل في بيته الجديد، وعلاقته بأقرانه التلاميذ وطبيعة سلوكه الاجتماعي في البيت والشارع الجديد والمدرسة.

ينبغي أن تقيم المدرسة شراكة تربوية مع أسر التلاميذ الذين هم بحاجة لردم الفقد النفسي والتربوي، فليس كل الأطفال متساويين بالفقد، وهذا يتطلب معرفة دقيقة من المدرسة ومن المعلمين بما يتعلق بسلوك التلميذ قليل التركيز، لتمييز اسباب فشله في التكيف المدرسي والتربوي.

الأسرة من واجبها التعاون الفعّال مع الجهات التربوية (المدرسة – المعلم – مراكز الدعم النفسي)، هذا التعاون يتم عبر تقديم مشاهدات الأبوين أو باقي أفراد الأسرة لما يسلكه الطفل الفاقد للتركيز والتكيف، فالأسرة معنية بالإفصاح عمل يفعله ابنها في حالة مكوثه المنزلي، أو في حالة وجوده مع أقرانه خارج البيت.

كذلك من واجب المدرسة ومن معلمي الطفل المباشرين تزويد إدارتهم بحالات الطفل النفسية والتربوية لدراستها بشكل علمي، وتزويد أهل التلميذ بنتائج سبرهم النفسي والتربوي والعلمي بدقة.

هذا التعاون قد يحتاج إلى مراكز متخصصة بالدعم النفسي الخاصة بظروف الحرب وتغيير البيئة الحياتية للطفل.

عدم معالجة الفقد النفسي والتربوي لدى الأطفال المتأذين سيتجلى لاحقاً بسلوكيات غير سوية تعتري حياة الطفل في مراحل قادمة. فالانطوائية بما هي انعزال عن التفاعل الاجتماعي ستقود حتماً إلى قوقعة فكرية نفسية مغلقة، قد تولد حالات تعصب فكري سلبية حيال المجتمع.

الانطوائية المترافقة بفشل التعليم ستزيد من خطر جهل هذا الطفل لاحقاً عندما يكبر ويتزوج وينجب أطفالاً. الخطر سيتركز على أطفاله وأسرته، وبالتالي على مجتمعه.

الأطفال السوريون الذين عاشوا في مرحلة الحرب، وعانوا من تغير شروط حياتهم، يحتاجون إلى العمل على تطوير قدراتهم ببيانات موثقة عنهم ترصد شخصياتهم وسلوكهم العام، والتعويض المطلوب لكل حالة من الحالات التي تشكل عائقاً أمام تكيفهم وإبداعهم الإنساني.

هذا الجهد ليس جهد مؤسسات محدود القدرة والإمكانات بل جهود حكومات تتعاون مع منظمات دولية لتجاوز ما أمكن تجاوزه من فقد نفسي وتربوي للأطفال.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني