fbpx

الطيّب التيزيني المناضل السياسي الشجاع

0 233

في 19/5/2019، رحل عن عَالَمِنا المفكّر، والفيلسوف، والأستاذ الجامعي، الدكتور “الطيّب التيزيني”، عن عمر ناهز 85 عاماً، تاركاً إرثاً ضخماً من المؤلفات والأفكار والدراسات الفلسفية والفكريّة.
في الذكرى الأولى لرحيله المحزن، أعتقد أنّ أفضل ما يمكن أن يقدّمه السوريون تخليداً لذكراه، وتمجيداً لفكره التقدّمي، ولمشاعره الإنسانية النبيلة، هي الإنصات إلى شهادته، وفهم وجهة نظره السياسية، ومواقفه الوطنية الديمقراطية، حول قضيّة الشعب السوري المركزية.
رغم تمحور إنتاجه الإبداعي الفلسفي، حول قضايا فكرية نظرية، ترتبط بالحضارة والتراث، ورغم عدم ممارسته السياسة بشكل مباشر، من خلال نشاط محدد داخل أيّ من أحزاب اليسار السوري، أعتقد بوجود دور بارز للدكتور تيزيني في نشر الوعي السياسي الديمقراطي، بين السوريين على المستويات كافةً، من خلال قدرة متميّزة في الحقل الفكري التنويري، استطاعت، كما أعلن، أن تمنح إنتاجه الثقافي “طاقة فاعلة، آنيّة، وليس فقط لمشروع قادم”، خاصّة في تركيز حديثه، ونشاطه السياسي، حول مقومات “الدولة الأمنيّة”، وضرورة تفكيكها، كطريق وحيد لتوفير شروط تحقق إصلاح سياسي ديمقراطي.
بناءً عليه، أحاول في هذا المقال، أن أقدّم الطيّب تيزيني، كمناضل وناشط سياسي، برز دوره بشكل واضح في بدايات الحراك الجماهيري، في ربيع 2011، رغم عدم كونه استثناءً في مسيرة “الطيّب”، المفكّر والمثقّف، الذي شغل هاجس “العدالة الاجتماعية” مكاناً أساسيّاً في صيرورة ارتقائه الفكري. (1)
في 24/9/2017، نُشرت مقابلة مع الدكتور الطيّب تيزيني، أجراها الصحفي “كريم خزام”، في برنامج “القنديل”، على شاشة تلفزيون ” الغد”، تضمّنت مقدمة، وعدّة مداخلات.
أولاً: في المقدّمة
جاء في التعريف بالدكتور الراحل، “الطيّب تيزيني”:
“قامة من قامات الفكر العربي المعاصر، وأحدُ أهمّ مئة فيلسوف في القرن العشرين. ولد الطيّب تيزيني في مدينة حمص، وسط سوريا، عام 1934. تلقّى علومه في تركيا وبريطانيا، وحاز درجة الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا، عام 1967، ليعود إلى دمشق، ويدرّس الفلسفة في جامعتها.
عُرف الدكتور تيزيني بانشغاله فكريّاً بتاريخ الحضارة العربية، ناسياً الفصل التعسّفي بين ما قبل الإسلام، وما بعده، واشتهر باستخدام المنهج “المادّي الجدلي”، لتحليل التراث العربي الإسلامي، معتبراً أنّه أصيل بذاته، وليس وسيطاً بين حضارة اليونان والحضارة الأوربيّة، التي رفض فكرة مركزيتها.
لم يغادر تيزيني سوريا، رغم الأحداث التي شهدتها، حيث بقي في مدينة حمص، دون أن يتراجع عن موقفه المعارض للنظام.
ثانياً: في مضمون المقابلة
نستطيع أن نتلمّس سمات وعيه السياسي، من خلال بضعة مواقف وممارسات، تمّت الإشارة إليها في المقابلة.
1- يختلف الدكتور مع “الرأي” الزاعم أنّ ظهور”الفكر التكفيري الجهادي”، (الذي شكّل، وميليشياته، أسوأ أدوات هزيمة الحراك السلمي، وتفشيل أهدافه الديمقراطية)، يعود لبدايات الحراك، وبسببه؛ رغم تنويهه بمساعدة “البيئة الخصبة”، في بعض مظاهر الوعي الثقافي، لشرائح مختلفة من المجتمع السوري.
تحدّث الدكتور في هذا الجانب الهام بصراحة عن وجود “خطط واستراتيجيات” خلف ظهور “الفكر الطائفي”، ونجاح سياسات تغوّل أدواته الخارجية.
2- شرح الدكتور الطيّب ما أطلق عليه “قانون الاستبداد الرباعي”، النظريّة، التي تفسّر طبيعة أنظمة الاستبداد.
يعتقد أنّ نظام الاستبداد يقوم على أربع: “الاستئثار بالسلطة، و الثروة، والمرجعية الاجتماعية، وقيادة المجتمع”.
يضيف نقطة أخرى تُبرِز أهمية هذه الرؤية، في الممارسة السياسية لمواجهة ركائز الاستبداد؛
“يضع هذا الحال شرائح مجتمعية واسعة” في مواجهة نظام الاستبداد، وتجمعها المصلحة في تفكيك أدواته. (العمل الجبهوي الديمقراطي، حول أهداف محددة).
3- ألمح الدكتور إلى أنّ ” المجتمع المدني” هو الضحية الأولى لنظام الاستبداد، الذي يعمل على “اختراقه” وتفشيله من الداخل، وأن الطائفية، كما هو الفساد، إحدى أدوات السيطرة. وربط الدكتور بين “الاستبداد والفساد”، مؤكّداً أن القانون العام يقوم على “مزيد من الفساد، والإفساد الدائم، لكي يصبح الجميع فاسداً، ومداناً، تحت الطلب”.
4- في شهادته حول بداية الأحداث ومآلاتها، يفنّد الأسباب التي ساقها ديماغوجياً “محور المقاومة” حول ذرائع “المؤامرة الكونية”. أتى ذلك في سياق الرّد على سؤال، فيما إذا كان قد توقّع حدوث “الزلزال” السوري!
شرح الدكتور أنّه ومن خلال مساهمته الفاعلة في مؤتمر “الحوار الوطني، برئاسة “فاروق الشرع” في تموز 2011، كان قد أكّد أنّه “علينا أن نبدأ بما يوصلنا إلى جوهر الأشياء”: “الدولة الأمنية”.
في المحاضرة الأولى أمام المؤتمر، وفي أعقاب كلمة “مشجّعة”، لفاروق الشرع، ترد المشكلة إلى جوهرها السياسي الديمقراطي، أوضح الطيّب تيزيني أن المخرج الوحيد هو في “تفكيك الدولة الأمنية”:
“قلتُ لهم أنا قادم من حمص، وعلى الرغم من تساقط الأمطار، شاهدتُ الناس تخرج إلى الشوارع، يتمنّون، على “الرئاسة”، وعلى المرجعيات أن يعيدوا النظر بكل الخطّة الاستراتيجية الموضوعة، وفي بدايتها، الدولة الأمنية”، (التي دعمها، ويشكو من ممارساتها تجاه موظفيه اليوم “الملياردير الحكومي”، وإحدى ثمرات نظامها”). تابع الدكتور، “صرّحت بذلك، فاضطرب الجو، لكنني لاحظت أن السيد نائب الرئيس، كان متضامناً”.
يضيف الدكتور، ساخراً، “اكتشفت لاحقاً، تجاهل وسائل الإعلام، لهذه المحاضرة “يللي أُعلن أنّها سَتُقدّم” (التي أصبح همّها الأساسي الترويج لخطر الإرهاب، والمؤامرة الكونية)، وعدم ذكرها إلا مرّة واحدة، وفي خبر موجز، لم يدم “دقائق” (٢). (وأنّ المؤتمر نفسه لم يتكرر، ولم يكن إلا صرخة ضائعة).
“البدء بتفكيك الدولةِ الأمنيّة، وإعادة الأمور إلى نصابها” هو الطريق الوحيد لعدم دخول سوريا في مسارات التدمير اللاحقة. لماذا؟
5- نهج “الإصلاح” الُمَعطّل، وسقوط ورقة التوت:
شرح الدكتور الطيّب بإسهاب كيف اتّصل فيه “وزير الاقتصاد”، وأخبره أنّه مكلّف بإعداد ورقة “مشروع متكامل حول الإصلاح”، وأنه يطلب منه أنّ يدرسها. يستطرد كيف جمّع خيرة معارفه النخبوية، ليكرّسوا وقتهم الثمين، وأتوا بالمراجع والدراسات، ويصف خيبة الأمل الكبيرة التي شعروا فيها، عندما تمّ إعلامهم، قبل شهر من الموعد المرتقب لمناقشة المشروع، بأنّهم “غضّوا” النظر عنه!
اتصل وقال: “بللو واشرب ميته”. تابع الدكتور بحسرة تفسيره للموقف. لقد تمّ قطع الطريق على مشروع الإصلاح، لأنّه “مجرّد أن تبدأ بالنصف واحد، عليك ان تُكمل بالواحد، فقُطع الطريق من البدء” هو الأسلم!!. والبديل هو “مزيد من الفساد، والإفساد الدائم!”.
6- في سياق الحوار، أجاب الدكتور على سؤال مهم جدّاً ، شكل العمل على تحقيق ظروفه أهم هدف لحلف “الثورة المضادة”، في سياق الحرب. وفي شهادته، حول العلاقة بين “الدولة الأمنية” ومجموعات الإسلام السياسي “الجهاديّة”:
“العلاقة وثيقة! الإسلام الجهادي موجود قبل ذلك (الحراك الشعبي، آذار 2011)، لكنّه اكتسب بعداً جديداً، صارت دعوته، دعوة العصر، لم تأتِ العملية بسبب “هبّة” حمص غير ذلك. وأنا كنت في المظاهرة الأولى التي خرجت في حمص. عاديّة، عاديّة”.

أشار الدكتور موضّحاً “إن تفكيك الدولة الأمنية لن يؤدّي بالضرورة إلى إقامة “دولة الخلافة”!
“اللحظة السياسية مختلفة، لكنّهما يشتركان بشيء واحد، تدمير البنية الاجتماعية”!
ثمّ يضيف شارحاً طبيعة الحراك، ومبيّنا تناقضه مع “الإرهاب”.
قال: إنّه كان موجوداً في أوّل مظاهرة خرجت في مدينة حمص، وأنّه، عندما اتصلّ فيه أحد أعضاء القيادة القطرية، ، طالبه بفتح الأبواب أمام المظاهرات السلميّة، وإفساح المجال للناس لكي تعبّر عن رأيها بحريّة، بل ولضمان سلامة المشاركين!!
(“خلّوا الناس يحكوا؟ قلتلو: فيه أربع خمس مظاهرات بدا تطلع في حمص، هيك أُعلمت. هدول بدهم ضمان الأمان “قللي “إيه!” هنن خرجوا، وانتهت العملية كلّها بمأساة”)!
لم يتمالك أعصابه، بكى الطيّب، أهله وناسه، ومشروعه “النهضوي”، ونظريّة “الدولة الأمنية”، بحرقة، ومرارة، وما زلنا نبكي أنفسنا، وأبنائنا، وسوريا، حاضراً، ومستقبلاً.
1- أعتقد أن عَظمة “المثقّف”، المفكّر أو الفيلسوف الباحث، في أي حقل من حقول الإبداع، لا تقتصر فقط على ما يقدّمه من خلال قراءته، أو إعادة قراءته للتراث أو “عوامل الحضارة وهو جانب يتعلّق أساساً، رغم أهميته التاريخية، بالطموح، والنجاح الشخصي، والمهني.
إنّ الوجه الأكثر إشراقاً في إبداع المثقّف هو ربطه العمق، والاستنتاج النظري، بالممارسة السياسية، من خلال الانحياز لقضايا شعبه، في اللحظة السياسية التاريخية الحاسمة، حين يكون للموقف السياسي الصادق، دور حاسم في حماية “السلم الأهلي”، ودفع الشعوب والأوطان، على مسالك التقدّم، وتجنبها الخيارات الأسوأ.
2- .. بعد مضيّ كل هذه السنوات، وما حملته من أحداث، لا أعرف إلى أية درجة كان الدكتور التيزيني، أو حتّى رئيس المؤتمر، نفسه، أو غيره من المدعوين، من النخبة الثقافية والسياسية، يعلمون الوظيفة الحقيقة للمؤتمر، عبر خلق وهم عند النخب الثقافية بجدّية “الدولة” في تلبية الأهداف الديمقراطية للحراك الجماهيري السلمي للشعب، لتحقيق أكثر من هدف:
– إحداث تناقض بين الشارع المنتفض، ونخبه الثقافية والسياسية، التي يعزز المؤتمر القناعة لديها بجدّية الخطوات “الإصلاحية”، وبالتالي ضرورة عودة المتظاهرين إلى بيوتهم، لتصبح أداة من أدوات إنهاء الحراك.
– شراء الوقت، من أجل إعطاء “الحلول الأمنية، مزيداً من الوقت، لدفع الحراك إلى وقف أنشطته الثوريّة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني