fbpx

الرواية والمفاجأة

0 192

لا يمكن لقارئ أية رواية، إلا وأن يضع نصب عينيه عنصر المفاجأة الذي يزرعه ويوزعه الروائي – بحنكة وهندسة عاليتين – تبعاً لإمكاناته وخبراته في عالم الكتابة، وقد تبدأ هذه المفاجأة منذ استهلالة الرواية، كي تجذب قارئها، لتمدَّ برأسها – بين الفينة والأخرى – تشدُّ من أزر النص، وتؤازره على إغواء مغامر عملية القراءة، كما تشدُّ من أزر هذا المغامر، متغلباً على مثبطات القراءة، وهي تظهر من خلال سلسلة العيوب الفنية، والجمالية، التي تفلت رغبة المتابعة من بين يديه وملكات حواس التلقي عنده.

والرواية – دون عنصر المفاجأة – مجرد شريط لغوي باهت، قد تعلق على مشاجبه بعض عناصر القص أو الحكي أو الحدث، وهو ضمن هذا التوصيف تراكم لغوي، ما يشبه الهذي، أو أنه – وهو الأدق – محض جسد تنقصه الروح، من دون هذا العنصر الذي تأتي ترجمته سلسلة دهشات متتالية، على اعتبار المفاجأة تشكل نواة مصطلح الدهشة ذي المفهوم الأوسع، وهو يشمل الشعر والفن، إلى الدرجة التي يكاد يقال فيها: “إن لا إبداع من دون الدهشة”، لأن الإبداع مرهون بالدهشة، أو أن كليهما وجهان لحالة واحدة.

وإذا كانت المفاجأة – روائياً – على هذا النحو، فإنها في الواقع قد تكون جد مختلفة، حيث إن الروائي قد يكتشف، نتيجة حساسيته العالية، بعض ضروب الفجاءة التي قد لا يمكن اكتشافها، لأول وهلة، من قبل سواه، وهو ما ينطبق على الشاعر، والرسام، والموسيقي، والمسرحي، كما أن مفاجآت الواقع قد تكون أعمق بكثير، من ترجمتها الفنية، مادام أن الواقع، هو المصدر الرئيس للمفاجأة، وكأني بالمبدع – هنا – ذلك الصيرفي، الماهر، الخبير، الذي يبرع في التعامل مع خلائط الواقع والفن، مع خلائط المعدن والكيمياء، وهو يصنع جبلَّته الخاصة، هذه الجبلَّة التي هي الواقع وهي المتخيل، هي الفعل وهي الأثر، هي الصوت وهي الصدى، ما يعيد إلى البال، وبالتوازي ما كان يحكى عن تلك الشخصيات النصف بشرية ونصف ما فوق بشرية – كما هو حال الأسطورة – عندما كانت هذه الشخصيات تأخذ بألبابنا وأرواحنا وعواطفنا – بل ومازالت – ما دمنا في حضراتها، وهي تفسر اللاواقع واقعياً، أو الواقع لا واقعياً، سيان ذلك، حسب متطلبات اللحظة أو الحاجة، ضمن إطار مهمة الفن، في روحه الكارزمية الآسرة التي لا يمكن لمن يقع في إسارها الفكاك منها البتة، سواء أكان من خلال ممارسة متعة القراءة، أومن خلال من ممارسة ما هو أعمق منها، وأجدى وهي الكتابة: بل الإبداع..!.

والمسافة بين بعدي المفاجأة، في واقعها، وترجمتها الفنية، لأشبه بالمسافة بين الأرومة/الأصل، والشبيه، بين الدم واسمه، بين الحرب وانعكاسها في صورة فيديو، أو قصيدة، أو قصة، أو رواية، وإن كان هناك من هو قادر أن يحاول إيجاد الموازن بين الواقع والحقيقة، بل ولا يرتقي إلى مستوى درجة أن يعيشهما معاً، كما ندّت عن ماركيز تلك الصرخة المدوية، التي اخترقت الآفاق، وهو يقبل على قتل بطله سانتياغو نصار في “قصة موت معلن”، تلك الصرخة التي لم تصدر حتى الآن عن أي مراقب للدم وهو يجري في أحرج لحظاته، وعناوينه، حيث وطن إما وهو يتلظى بالسفود الذي يخرقه مترجماً لغة الجمر، واللهب، أو بالمجزرة التي ترتكب بحق أبناء قراه ومدنه العزلاء من أدوات الحرب، تمحقها آلة الحقد والإبادة، وهو ما يبدأ بـ “منقار بطته” العين ديوارية حتى “نواه”.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني