fbpx

الحضارة بين الهوية والاغتراب

0 442

غدا من البديهي أن يفرّق الناس بين المدنية والحضارة. وإذا كانت الحضارة العربية الإسلامية أثبتت للتاريخ البشري أنها سابقة لم يتم تجاوزها حتى الآن، فإننا مدعوون إلى التشبّه بأجدادنا الذين فرضوا احترامهم على العالم من خلال الحب والعطاء اللذين منحوهما للآخرين من غير تبجّح أو قسر.

قبل عبّاسي مدني وأزمة الفكر الحديث، وقبل أسس التقدم وفهمي جدعان، وقبل الجابري والخطاب العربي المعاصر، تبرز أفكار مالك بن نبي في سلسلته عن مشكلة الحضارة، وبخاصة في كتابه (شروط النهضة) الذي يقول فيه: “لو أننا درسنا الحضارة بالنظرة الشاملة، الخالية من الأوهام… لما وجدناها ألواناً متناقضة. ولا شك في أن عقائدنا السياسية تدين لتلك القيم الفاسدة للمدنية، تلك العقائد التي تمثّلت عندنا اليوم في أسطورة (الشيء الوحيد) أو (الرجل الوحيد) الذي ينقذنا. وحيث لم يتيسّر لنا أن نضع آمالنا في (شيء واحد) فقد وضعناها في (الرجل الوحيد) الذي بيده سعادة الشعب ورخاؤه. إن هذه العقيدة الوثنية التي تقدّس الأشخاص، لازالت منتشرة في بلاد الإسلام، لم نتخلّص منها، وإن كنا قد فعلنا شيئاً، فربما كان ذلك في استبدالنا وثناً بوثن… وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم. ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز (الأشياء الوحيدة) عن حل المشكلة… التي هي مشكلة الحضارة أولاً، وقبل كل شيء..”.

واليوم نفتح ملفاً جديداً حول الحضارة بين التمازج والصراع، تلك الحضارة التي هي حصيلة إبداع الإنسان وجهده.

ما الذي جعل الحضارة العربية الإسلامية تذوي؟.

وما هي مواقفنا من حضارة الغرب الحديثة؟. وهل نحن اليوم قادرون على تمثّل الحضارة لإعادة توجيهها وفق ما نراه من قيم أصيلة رسّخها أجدادنا ونسينا بعضاً منها؟.

وهل بإمكاننا إيقاف تبادل التهم والإدانات لنعمل جميعنا على إعادة نهجنا الحضاري الذي بُني على توفير الحريات الفكرية، والتعددية، وتعميق القيم الإنسانية الخالدة؟.

وما المقدار الذي يحمله الإعلام المعاصر من مسؤولية التضليل؟

الحضارة مشروع يتم تداوله بين الشعوب والأمم، وهو لا يكتمل إلاّ بمطابقة الأمة بين القول والفعل في أدبياتها الاجتماعية الشاملة.

فهل تشكل هذه الأسئلة وغيرها، عبر موقعنا هذا، منطلقاً لحوارات غنية حول مسائل تهمّنا، أم أنها تمرّ – كغيرها – مرور العابرين؟

عندما يقف المرء عند حدود القول، لا شيء يتغير في واقعه. وقد آن لنا منذ حين أن نكف عن ردود الفعل التي تؤدي بنا إلى حيث لا نريد.

إننا أشبه بمن يلعب (الشطرنج) أمام محترف ينقلنا حيث يشاء هو، ما دمنا نلعب وفق قواعد ثابتة محددة بمنطق الآخر وفي لعبة يتقنها أكثر منا. ‏ 

المربك للمحترف في هذه اللعبة هو الخصم الذي يسير بخططه هو ولا يلتفت إلى خصمه إلا بالحدود الدنيا للدفاع.  والتساؤل المطروح هنا: ما قيمة (الشطرنج) وقواعده لإنسان منشغل عنه بشيء آخر؟ ‏ 

ورقعة الشطرنج المقصودة – هنا – هي تلك المصطلحات والمسائل التي توجهنا بمسميات لا تعني لنا شيئاً ما دمنا لا نعيرها أي اهتمام.

النظام العالمي الجديد.. حوار الحضارات وصراعها.. العلمانية.. وأخيراً (العولمة) ما شأننا بذلك كله، وما جدوى مناقشته ما دمنا نصدر عن فكر واضح وثقافة راسخة قوامها العرب الذين يحملون لواء الحضارة الإسلامية عبر قرون؟ ‏ 

لدينا مشروع حضاري جاهز لا تنبغي لنا استعادته كما كان، بل العمل على تطويره مستعينين بتفكير علمي تقني، اقتصادياً وسياسياً وفكرياً. ‏ 

العالم يتغير من حولنا ويتطور، ولا يستحيل علينا أن نستعين بآليات تطور الحضارة لنسهم فيها كي لا نكون أشبه بحرس الحضارة القديمة، نرفض تطور العالم كي لا يتضح تخلّفنا.. إن عبور القارات لتلقّي العلم ليس عيباً ولا يشكّل عقدة نقص عند طالبيه، بل هو أمر لابد منه من أجل التطوير. ‏ 

هل يعقل أن نحصي العدد بحبات (الحمص) ونتخلّى عن الآلة الحاسبة لأنها من إنتاج الغرب، أم الأجدى هو أن نتعلم تقنية تلك الصناعة وآلية استخدامها وتطويرها؟ ‏ 

لم يكن ابن خلدون مخطئاً عندما قال «إن المغلوب يقتدي بالغالب»، وأمامنا اليوم فرصة نادرة للتقدم السريع، ليس باستخدام التكنولوجيا فحسب، وإنما بامتلاكها أيضاً، أي بفهم تلك الشرائح العجيبة التي تقبع داخل (الكومبيوتر). ‏ 

إذا كنا نريد الحفاظ على تراثنا وخصوصيتنا وحضارتنا لابد لنا من فهم كل ما يدور حولنا، ولابد من استيعاب الجديد والمعاصر، وعلينا أن نمتلك ما يؤهلنا لإيصال صوتنا إلى العالم عبر شرائح الكمبيوتر.

إننا أصحاب حق وتاريخ وحضارة، كلها ضائعة لأن أصواتنا لا تصل إلا إلينا، بينما تصل أصوات الصهاينة إلى العالم لأنهم يشتغلون على البحث العلمي ولا ينشغلون عنه بردّات فعل عدائية تجاه التطور العلمي الحاضر. إننا نهمل ذلك كله بالرغم من أننا أصحاب الحديث الشريف (اطلبوا العلم ولو في الصين)، وننشغل عنه بصراعات داخلية تُناقش العلمانية والعولمة والمجتمع المدني، ونفتح جبهات صراع حول مشروعية قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً والنص. ولا ننتبه إلى أهمية النفاذ في ضمائر الآخرين. إن تراثنا المكتوب بقي مكتوباً على الورق في حين تحولت الثقافة اليوم إلى شيء مبثوث يدخل كل بيت.. كم من نتاجنا يدخل عالم الإنترنت؟!

في عالم الكومبيوتر والإنترنت والإعلام، إذا أراد شخص في الأسكيمو أن يبحث عنا… لن يجد شيئاً في عالم الاتصالات… وكل ما يسمعه أو يراه من الآخرين يوحي بأن العرب والمسلمين كانوا يعيشون على هذه الأرض.. أما الآن فلا وجود ثقافياً لهم… وقد يصورنا الأعداء على أننا مجموعة إرهابية متخلفة تتصرف بشكل عشوائي.. وأصحابها ماذا يريدون.. ماهي طموحاتهم.. ماهي أطروحاتهم؟.. لا أحد يعلم عنها شيئاً.. ونحن لم نسع بعد لإيصال أفكارنا إلى الآخرين.

أدوات الثقافة اليوم هي غير أدواتنا، فكيف نُعرف إذا؟!. وماذا نحن في عالم العولمة سوى شعب غامض يقبع في مكان ما من العالم، ويتلقى ما تبثه محطات التلفزة والإنترنت في العالم. ما المشاريع التي نطرحها اليوم؟ كل المحاولات الآن فردية تعتمد على همة الشخص ومدى تفرغه ومقاومته ليقدم رؤيا ومشروعاً ومقولة، أما المنظمات الأهلية ومؤسسات الدولة فهي غائبة عن الفعل الثقافي، لا تشجع أي جهة أي شخص للانضمام إلى مراكز بحث علمي أو أدبي أو فني ليقدم مجموعة مبدعين وجهات نظر حضارة لاتزال حية حتى الآن وتمثل العرب والمسلمين. 

ما الذي نقدمه للعالم مما لدينا ليتضح إبداعنا في عالم اليوم، وكيف نفعل ذلك بلا وسائل فاعلة. وهل نكتفي بالإصغاء إلى صوت العولمة مشدوهين؟ في حين أننا نستطيع تحويل العولمة إلى معطى حيادي شرط أن نسرع في مسألة الحوار الداخلي كي لا ننقسم بين تمترس أيديولوجي حداثوي منفلت ونزعة تبشيرية ترفض كل ما هو قادم لحساب الناقة. ليس بيدنا وقف تدفق العولمة، ولكن التعامل معها بالطريقة التي نشاء هو ما يمكننا فعله. ‏ 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني