الحشد الشعبي عبر إيران
(جزء مهم من زوال الولايات المتحدة من الساحة العالمية حدث في العراق، فالكلمة الأساسية تقال في الميدان دوماً، والقدرات السياسية الحقيقية هي القدرات الميدانية العسكرية، وأداء الحشد الشعبي رائع جداً في هذا الميدان، وستتوسع قدراته إن شاء الله تعالى كقوة دفاعية وجهادية ذات أهداف كبيرة وإيمان قوي وانسجام داخلي وانتظام وانضباط عالي المستوى)
هذه العبارة أعلنها اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، خلال لقائه مع رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض يوم 9 آب/أغسطس 2021، مبيناً بصورة لا لبس فيها، أن إيران ترى في عسكرة المجتمع العراقي المدعوم إيرانياً، الوسيلة الوحيدة نحو الضغط السياسي للهيمنة على العراق وطرد القوات الأميركية منها.
وقد جاء هذا اللقاء بعيد إعلان الولايات المتحدة الأميركية نيتها الانسحاب من العراق نهاية عام 2021 خلال زيارة الكاظمي للبيت الأبيض.
فعلياً تعرضت القوات الأميركية في العراق لعدد من الهجمات بالصواريخ وبالدرون قبيل تصريح اللواء سلامي، من أبرزها:
- يوم الإثنين 3 أيار/مايو 2021 تم استهداف قاعدة بلد بثلاثة صواريخ كاتوشا.
- يوم الأحد 2 أيار/مايو 2021 تم استهداف قاعدة فيكتوريا العسكرية المجاورة لمطار بغداد بصاروخين من نوع كاتيوشيا.
- وفي نهاية شهر نيسان/أبريل تم استهداف قاعدة فيكتوريا أيضا بثلاثة صواريخ كاتوشيا.
واللافت للنظر أن مقاتلي الحشد الشعبي لم يعلنوا عن تبنيهم لهذه العمليات أو حتى عن العمليات التي تمت في شهر حزيران/يونيو 2021، ولكن ما نلاحظه أن عموم الاستهدافات الصاروخية والدرون توقفت بعد زيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني للعراق في 27 تموز/يوليو 2021.
فكما يبدو أن قاآني طالب الفصائل الموالية لإيران بالتوقف عن استهداف الأميركيين، بغية ضمانة عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، ولكن واشنطن تأخرت بالعودة هذا الاتفاق، كما أعلنت عن حق إسرائيل بالدفاع عن أمنها القومي فبادرت الأخيرة بقصف مطار الضبعة في منطقة القصير “مسببة مقتل عنصرين من الحرس الثوري الإيراني، وثلاثة عناصر من حزب الله اللبناني”.
أيضاً بادرت الخارجية الأميركية بتأييد حق الشعب الإيراني بالتظاهر السلمي في إقليم خوزستان.
عموم تلك الأحداث أشعرت إيران بأن واشنطن تمارس سطوتها الدولية عليها، وهو ما لا تحبه طهران، لذا عادت إيران للعب دورها الاستفزازي لواشنطن، عبر استهدافها للباخرة الإسرائيلية Mercer Street Vessel في بحر عمان يوم 30 تموز 2021، في إشارة منها للمجتمع الدولي أنها القوة الأبرز التي تستطيع السيطرة على منطقة الخليج العربي/الفارسي.
كما وظفت “سرية قاصم الجبارين” لتنفذ استهداف عسكري طال رتل مساعدات لوجستية لقوات التحالف في محافظة الديوانية “جنوب العراق” يوم 5 آب/أغسطس 2021.
ويذكر بأن سرية “قاصم الجبارين” هي تشكيل عسكري صغير غير معروف أو مشهور، وهي غير منطوية في قوات الحشد الشعبي، وليس لها مقر إداري معلن أو معروف، وتصدر عموم تصريحات هذه السرية في منصة تيلغرام التي لا تلقى متابعة كبيرة فقط “267 مشترك فقط”، واللافت للنظر أن لدى هذه السرية ناطق إعلامي يدعى “أبو مجتبى القريشي”، وعموم مقابلات القريشي هي لقناة الميادين وقناة العالم الممولتين من الحكومة الإيرانية، كما تصدر هذه السرية بيانات عسكرية عن عموم عملياتها العسكرية.
في يوم 25 كانون الأول/ديسمبر 2020 أصدرت السرية بياناً أعلنت فيه استهدافها لأرتال عسكرية في محافظات “بابل، الديوانية، ذي قار، السماوة”.
أيضاً امتازت هذه السرية، بنشرها يوم 15 كانون الأول 2021، عن معلومات أمنية بالغة الأهمية، مثل نقل القوات الأميركية اثنان وثلاثين منصة إطلاق صواريخ مع ذخيرتها من الكويت نحو قاعدة عين الأسد بطائرة نوع C130، ونقل القوات الأميركية في تشرين الأول/أكتوبر 2020 أسلحة، ومناظير ليلية من قاعدة علي السالم الكويتية، نحو إلى قاعدتها العسكرية قرب مطار أربيل في العراق.
بالتأكيد هذه السرية بإمكانياتها المتواضعة، ومتابعتها المحدودة في وسائل التواصل الاجتماعي، لا تستطيع الحصول على هذه المعلومات بدون دعم استخباراتي مقدم من الحرس الثوري الإيراني، ما يوضح لنا أن الحرس الثوري الإيراني طلب من قوات الحشد الشعبي أن تلتزم بعدم التصعيد العسكري ضد الأميركيين، ولكنه في الآن ذاته نظم فرقاً إرهابية صغيرة مهمتها إشعار الأميركيين وقوات التحالف الدولي بأنهم مستهدفين ضمن عمليات عسكرية محدودة إن استمروا في سياستهم العدائية تجاه إيران، ومن بين تلك الفرق الإرهابية “سرية قاصم الجبارين”.
وفعلياً هذه الاستراتيجية ناجحة، وتجنب قوات الحشد الشعبي الصدام المباشر مع قوات التحالف الدولي، وتظهر قوات الحشد الشعبي بمثابة الضحية إن تم استهدافها من قبل قوات التحالف الدولي.
فالح الفياض بدوره أعلن من طهران يوم 9 آب/أغسطس 2021، إعجابه المطلق بالحرس الثوري الإيراني، ورغبته بأن يتشكل مثيله في العراق. وهذا التصريح يحمل دلالة واضحة، مفادها أن مشروع دمج الحشد الشعبي بالجيش العراقي كما يطرحه الكاظمي، هو أمر مرفوض، فالحشد الشعبي سيكوّن مستقبلاً مؤسسات اقتصادية وأمنية خاصة به، وتخوله نشر ثقافة الثورة الإسلامية في العالم العربي.
وللأسف سيكون هذا الأمر كارثياً على العراق وسوريا، لأن سنّة العشائر العراقية والسورية الممتدة من الأنبار العراقية وصولاً لمدينة تدمر السورية ستكون عرضة لعمليات تصفية دينية، ما سيدفعها للدفاع عن نفسها ضد هذه المليشيات، وهو ما سيعني توسع للحرب الأهلية من سوريا نحو العراق، وتنامي للفشل الاقتصادي والاجتماعي في هذه البلدان لعقود قادمة.
من هنا على الولايات المتحدة مراعاة الواقع الديموغرافي في العراق، وانعكاساته على السياسة العراقية والإقليمية للشرق الأوسط قبيل تنفيذها للانسحاب العسكري من العراق، فالفراغ الذي سينتجه الانسحاب سيكون فرصة لا مثيل لها لقوات الحشد الشعبي بأن تمارس سطوتها على كل العراق، ما يعني تكرار لتجربة طالبان في أفغانستان التي استطاعت السيطرة العسكرية على عموم أفغانستان في ظل تهاوي الجيش الأفغاني، بعد أن انسحبت القوات الأميركية من أفغانستان.