fbpx

الثورة تجب ما قبلها.. والمنافقون يتصدّرون

0 477

استطاع التراث الشعبي السوري قراءة المستقبل بأمثاله التي تناقلها الأحفاد عن الأجداد، ولكنّنا لم نتمكن من قراءتها بتروٍ وهدوء كي نستفيد من عِبَرها عبر الزمن.  

من تلك الأمثال ما يكاد يحفظه كلّ سوري من غير أن يعمل بما فيه سوى القلائل.  قالوا عن أهمية قِصَر مدة الخطبة قبل عقد القران: “لا تطولوها.. كل ما طالت بتلمّ غبار”.  وهذا ما حدث مع الثورة السورية.  امتدّ بها الوقت وغدت ككرة الثلج كلّما تدحرجت كبرت بما يعلق بها من عُقَدِ وأمراض من تصادفهم.  وتقلّبت بها الحال فغدا الثائر الأوّل غريباً مع الوقت حين وصلت الكرة إلى أيدي المتسلّقين وتجّار الحروب وحواة كلّ آن. 

بعد عامين على انطلاقتها تسيّدت الموقف معارضة غريبة عن أهلها، كما تصدّر وسائل الإعلام نكرات لم يكن لهم ذكر، من كلا الطرفين، المعارضة والسلطة.  وهنا غدت وسائل التواصل الاجتماعي المثقِّف الأساسي لأدبيات الثورة.  وهنا كانت الطامّة الكبرى.  التخوين صار على أشدّه وتغذّيه فئات مختلفة، منها من تسلّق إلى كراسي المعارضة في الثورة، ومنها من بات خبيراً استراتيجياً لدى إعلام الدولة، وللفئتين المصلحة في ادّعاء الوطنية ونزع تلك الصفة عن سواهم ما يصل إلى حدّ التخوين.  وفي الأحوال كلّها كان الخاسر الأكبر هم البسطاء الذين خرجوا، بصدور عارية، في مظاهرات تطلب الحرية وتنادي بكرامة الإنسان.  هؤلاء الذين تنحّوا بسبب الغبار الذي طال الثورة، بقوا أسرى الفقر والحرمان والبطالة ووقعوا في فخ تصديق الأحكام التي يطلقها متصدّرو المشهد.  في تلك المعمعة أُسقط كثيرون ممن يستحقون التقدير والاحترام.  متسلّقو الثورة يقولون: حاذروا من فلان فقد كان يتسلّم منصباً عند الطغاة، وعندما قامت الثورة التحق بها. ومتسلّقو الموالاة يقولون: كنّا مغشوشين به، وأصلاً هو كان تابعاً مرتشياً يحيط بتصرفاته الفساد من كل جانب، وحين أبعدناه التحق بالمعارضة. 

الفكرة التي تغيب عن أذهان الذين كانوا يصدّقون خطباء المساجد وحواة المثقفين، أنّ كلّ إنسان في سوريا قبل الثورة كان مغلوباً على أمره، فلا صوت إلا صوت السلطة، و لا يد إلاّ يدها، ولا منابر غير منابرها.  فإذا استطاع المخلص أن يهرّب فكرةً أو ممارسة سليمة آنذاك، كان كمثل المتظاهر بصدرٍ عارٍ في مطلع الثورة. 

الآن قامت الثورة، وكلّما سنحت الفرصة لواحد من العاملين في الدولة، أو من المحسوبين على السلطة، فبادر لإعلان انشقاقه عنها، أو تبرّأ منها، وبدأ يخدم الثورة بما يستطيع، ينبغي لنا أن نرحّب به ونبارك خطوته، لا أن نخوّنه ونخرجه من جنّة الموَاطنة.  لا تترك له فرصة قيادة المرحلة، ولا تسمح له بتسلّم منصب، ولا تأمن له بما يرفع حصافة الحرّ، كل ذلك لا بأس به، ولكن، بالمقابل، لا تخوّنه.  ألا ترى أن كثيرين جاءتهم فرصة إيضاح مواقفهم من السلطة ولم يفعلوا؟ ألا ترى كثيرين ما يزالون يتأرجحون في الجانبين ولا تهمهم سوى مصالحهم الشخصية؟ ألا ترى من كان يتصدّر مواقع في السلطة ويتكسب منها، ثم غدا يتصدّر في تأرجحه بين الجانبين فلا يتضح موقفه، بالرغم من بعده عن براثن السلطة وأجهزتها الأمنية؟ ألم يصادفك حيادياً جمع أمتعته وأمواله وخرج بهدوء إلى دولة أخرى فبنى مصنعه أو مدرسته أو متجره ولم يتأثّر بما حدث في بلده، ولم ينبس ببنت شفة عن موقفه تجاه القتل والتدمير والاعتقال؟

أتحتاج إلى أمثلة؟ إنك تعرفها كما نعرفها تماماً.  تصول وتجول بيننا وما من رادعٍ لها لأنها تؤمن أنّ جنتها على الأرض نهاية المطاف، وأن العالم قد سخّر الأغبياء الذين تُتخمهم القيم الإنسانية – أمثالنا – من أجل ينعم الأذكياء – أمثالهم – بخيرات العالم. 

كيف إذن تستبعد مَنْ، حين غدا آمناً، صرّح بأنّه يتبرّأ مما يفعله الطغاة، وبدأ يدعم الثورة بما يستطيع؟ 

كلّنا كنّا مستكينين، نتعلّم كتب الطغاة، ونتحدّث في إعلام يسيطرون عليه، وندرس في جامعات وضعوا قوانينها بما يناسب أمزجتهم ومصالحهم، ولكننا – الآن – والآن فقط، بعد أن خرجنا من مناطق سيطرتهم واعتقالاتهم ويد الموت التي تمتد إلينا منهم، أصبحنا نُسأل عن مواقفنا منهم ومن ممارساتهم. 

أيها السوري النبيل… حان الوقت كي نعيد التفكير في أخطاء ما تعلّمناه، وفي أخطاء ما تشرّبناه من قيم زائفة.  علّمنا الطغاة أن “الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء غيرها”.  وأن اليد التي لا تستطيع صدّها عنك.. “بوسها وادعُ عليها بالكسر”.  وأنّ “كل مين أخد أمي بسمّيه عمّي”.  علّمنا الطغاة أن نغدو مخبرين لنحقّق أحلامنا، فبات الأب يخشى من ابنه والزوج من زوجته، والجار من جاره، وهكذا صار للجدران آذان.  وكم مرّة ركّز خطباء المساجد على تكفير النصارى، حين احتاجت السلطة إلى تخويفهم من محيط مسلم، كي تضمن ولاءهم، وتوهمهم بأنها الحامية لوجودهم. 

ليس الدين أغلى من الإنسان، وقد وُجد الدين من أجل الإنسان ولم يخلق الإنسان من أجل الدين.  ليس الوطن أغلى من المواطن، الوطن يكتسب أهميته من مواطنيه، فما من قيمة لوطن يُداس مواطنوه.  وما من قيمة صالحة ما لم تكن في صالح الإنسان الذي كرّمه الله.  ليست العروبة في إذلال سواها من القوميات، وليس الإسلام في نفي سواه، وفي تكفير من لا يوافقنا الرأي أو السلوك.  ليس ثمة رسالة خالدة في حزب أو أمّة سوى رسالة تكريم الإنسان.  

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني