التغيير وقد بات مطلب الأغلبية العظمى من السوريين
عاد سؤال التغيير من جديد ليصبح أكثر شمولاً وعمقاً بعد التصدعات التي وصلت إلى نواة النظام السوري، وبعد الأزمة المعيشية غير المسبوقة من جراء هبوط سعر الليرة، إلى درجة أصبح من الصعب الحصول على أبسط الضروريات لاستمرار الحياة.
التغيير الذي أراده المتظاهرون عام 2011، التغيير الديمقراطي الذي يتجاوز حالة الاستبداد، ولو بصيغة سياسية مبسطة تمثلت برفع شعار “الحرية والكرامة”، لم يرق للأطراف الإقليمية والدولية التي اشتبكت في سورية، وتناقضت مصالحها مع التغيير الذي كان يمكن للسوريين أن يجتمعوا عليه. وفي أجواء التنابذ هذه، استمرت الحرب في سورية وعليها، ومعها تراجع الحلم السوري، وبقيت سورية ساحةً للموت والدمار والبؤس والتهجير، وتمكن النظام من البقاء، ولو على كومة من الأنقاض.
لكن التطورات الأخيرة، ومنها الصراعات بين أجنحة النظام على احتكار الثروة، وبدء تطبيق قانون قيصر والعقوبات الأميركية ذات الصلة، وضعت ما بقي من السوريين في الداخل أمام أزمة معيشية لم يسبق لها مثيل، وبدأت بوادر تحركات شعبية تهدد بحصول احتجاجات واسعة النطاق، ليست مظاهرات السويداء سوى مقدمة لها، إذ لم يعد لدى أغلبية الشعب المكتوية بنيران الغلاء ما تخسره.
لا يختلف الوضع كثيراً بين مناطق سورية الواقعة تحت النفوذ المباشر لثلاث دول أجنبية، ولا يقف ذلك عائقاً أمام توحيد المطالب وتلاقي الاحتجاجات، لتشكل بداية موجة ثانية من الثورة، لن تنحو كسابقتها باتجاه العسكرة والأسلمة لاستنفاذ طاقة هذين العاملين في السنوات الأخيرة ووصولهما إلى طريق مسدودة، وبسبب القيود العديدة التي ستكبح لجوء النظام للقمع، وهو الواقع تحت المجهر الدولي، بما في ذلك مجهر الوصي الروسي المهيمن على مقدراته.
وفي حال دفعت الظروف الاستثنائية الحالية إلى توافق دولي باتجاه الحل السياسي، ويبدو أنها اقتربت من ذلك، فإن أمل التغيير سيعود ليلوح في الأفق بعد تعثر دام تسع سنوات، لكن مع ظهور عقبات جديدة صنعتها سنوات الحرب وكثرة المتدخلين الخارجيين وأتباعهم من انتهازيي الفرص السوريين. كما أن الكثير سيتوقف على الطريقة التي يتم فيها هذا التغيير وما ستتفق عليه الدول المتدخلة الرئيسة في الشأن السوري. لكن دخول السوريين على الخط من خلال فعاليات الاحتجاج المختلفة، بما فيها التظاهر، يحيي الأمل بإعادة إحياء المشهد السياسي السوري، بالتوازي مع الحركيات الاجتماعية الجديدة، التي ستستفيد من تجربة الموجة الأولى من الثورة.
فما هي القوى السياسية السورية التي يمكن أن تؤدي دوراً في هذه المرحلة؟ وهل بقي لهيئات المعارضة الحالية أي تأثير بعد أن هيمنت عليها بعض الدول الإقليمية وحولتها إلى هيئات تابعة لها، حتى أنها وظفتها، في بعض الحالات، كمرتزقة لتحقيق مصالحها المتعارضة مع مصالح الشعب السوري؟
وإذا بدأنا من آخر تحديث لهيئات المعارضة في الخارج، الهيئة العليا للتفاوض، فمن الصعب التعويل عليها، كمؤسسة، ذلك لأنها منتج إقليمي/دولي في نهاية المطاف، والشرط الأساسي لأن تلعب هذه الهيئة، وغيرها من بقايا مؤسسات المعارضة، دوراً وطنياً في المرحلة الانتقالية هو أن تفك ارتباطها مع الأطراف الإقليمية على نحوٍ خاص، وتختار مكاناً آخر للعمل منه حتى لا يتم فرض الأجندات عليها، ريثما يصبح بوسعها العمل من داخل سورية، وتعد بلدان الاتحاد الأوروبي أمكنة مناسبة لهذه الغاية.
ما عدا هيئة التفاوض، مجتمعة أو كشخصيات مستقلة قد تنفصل عنها، سيكون ثمة مجال لشخصيات معارضة، كان الصراع قد همشها، لتقوم بدور مهم، ويمكن أن تشكل في هذه المرحلة خميرة لإنضاج حالة سياسية سورية تعتمد على السوريين الذين حُرموا من التمثيل السياسي، وخاصة الشباب منهم، وهم الأغلبية التي عانت وتشردت ولم يُؤخذ برأيها، ما يساهم بسد جزء من الفراغ السياسي في المرحلة الانتقالية، إلى حين حصول الانتخابات.
وسيحتاج تعبير الأغلبية السورية عن رأيها إلى مناخ أمني ملائم، وهذا واجب الدول الضامنة للحل، إلى أن تتم هيكلة وإعادة بناء جهاز أمني جديد، فالتعبير عن الرأي حيوي لمعرفة التوجهات الشعبية واستلهامها في العملية السياسية. ومع أن درجة التعبير عن الرأي ازدادت في الآونة الأخيرة، تحت ضغوط الفاقة والانهيار المستمر في المؤشرات الاقتصادية وأهمها انهيار سعر صرف الليرة، فإن من الصعب أن تتحول إلى برامج سياسية في الظروف الحالية.
في كل الأحوال، لم يعد ثمة من رأي واحد يمكن فرضه في أي من المناطق السورية التي تسيطر عليها قوى الأمر الواقع ذات الطبيعة المستبدة، بما في ذلك مناطق سيطرة النظام، وإن ما لا يُقال علناً، يتحول إلى رأي واضح في المجالس الخاصة.
لا يصعب على النظام الأمني، الذي هو آخر ما يختفي في أي نظام مستبد، الإيعاز بقيام المسيرات المؤيدة تحت سيف التخويف، لكن ذلك لا يغير من طبيعة المشهد، حيث لا يجد معظم الناس ما يسد الرمق، والموالون في القلب منهم. ومن أجل أن يُسدل الستار على بقايا الخوف المزمن، لابدّ من ضمانات دولية لئلا تحدث حالة فوضى تحرض عليها الأطراف المتضررة من التغيير. على العموم، يمكن القول بأن معظم السوريين صاروا جاهزين للتغيير ويدعمون قيام دولة ديمقراطية ذات سيادة على كامل الأراضي السورية.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”