fbpx

التعالي على السياسة وأشكال الهروب منها

0 166

تتقاذف ألسنة مجتمعية كثيرة، ومتعددة المستويات والاتجاهات عبارات متنوعة تعلن من خلالها موقفها من السياسة عملاً وتعاطياً وفكراً وشعوراً. وإذ تحدد كل عبارة موقف صاحبها من السياسة بحسبه، لكنها في الحقيقة توضح مستواه المعرفي والإدراكي للشأن العام وأولوياته في الحياة دون أن يعلم، ودون أن يشعر في الغالب.

ولأن السياسة سهلة للغاية وفقا للتوقع، ممتنعة بشكل كبير على الحقيقة فإنها تغري كثيرين بدخول معتركها، وسرعان ما يكتشفون بساطتهم وسذاجتهم، أو حتى غباءهم، ويدركون في لحظة ما أنهم كانوا مطية لسواهم، وحينذاك يعلن بعضهم استقالته من العمل السياسي لتوقف فرص تموقعاتهم، أو لانقطاع أملهم بممارسة السياسة، أو لطلب مشغّلهم منهم ذلك، أو لرميه لهم بعد أن أدوا وظائفهم، وبدل أن يصمتوا ويستروا أنفسهم على أقل تقدير نجدهم يكابرون ويتعالون على السياسة والعمل السياسي فيطلقون عبارات تعويضية ليقينهم بالغرم أو الضعف أو الاستزلام أو الفشل؛ ولا يملكون الجرأة الأدبية للاعتراف بأنهم خاضوا غماراً لا قبل لهم به، ولتحذير الآخرين من الوقوع بالمطبات التي وقعوا بها.

ويلعن بعضهم جذر ساس يسوس سياسة، ويغيب عن أذهانهم أن هذا الجذر لا يختلف عن جذر ربى يربي تربية، إذ فيه معلومات ومهارات وقدرات وخبرات ومرجعية تقود صاحبها ومحيطه المعني بالسياسة والتربية إلى نتائج معينة، فكما أن من يغيب عنه حسن انتقاء المربي لولده يحصل على نتائج مختلفة عمن يحسنها، كذلك الأمر بين من يعرف ويحسن الدفع بالسياسي المناسب لشؤونه العامة وبين من يخاف أو يتقاعس أو يجهل أصول هذا الاختيار، فيتحمل بذلك تبعات خوفه وتقاعسه وجهله.

وآخرون يقولون: نحن لا نحب السياسة، أو إننا نكرهها للتعبير عن موقف أخلاقي رفيع لهم متضمناً بعبارتهم، وهم يجهلون أنهم يعبرون عن قصورهم الكبير في فهم الحياة ومناحيها. وكلماتهم تلك تشبه من يقول: أنا لا أحب العلم الرياضي، أو أكره الفيزياء ويستحضر بذلك موقفاً أخلاقياً عالياً لنفسه!.

والذي يؤكد هبوط المستوى المعرفي لأدنى دركاته عندما يستدرك هؤلاء ويدافعون عن عبارتهم وفكرتهم، أو يدافع عنهم آخرون بأن المقصود من عبارتهم نوع محدد من السياسة!.

ويفوتهم جميعاً أنهم أصبحوا يماثلون من يقول: أنا أكره العلم هكذا بالإطلاق والمقصود العلم الذي يتوصل به صاحبه للتفريق بين الناس، أو أنا أكره التربية هكذا بالإطلاق والمقصود التربية التي تؤدي إلى الشرور والآثام.

ويغفلون عن أن كلماتهم تلك تجرد اللغة من قيمتها فبهذا المعنى يمكن للإنسان أن يقول: أنا لا أحب العلم، وأكره الفن، وأشمئز من التربية، وأشعر بالغثيان من الخطابة، وأتألم من الكتابة، وأنزعج من التأليف، وأعادي التعليم، وعندما يقول ذلك فهو يعبر عن موقف أخلاقي عال، ويحترمه من حوله على هذا القول، ويدافعون عن مراميه! لماذا؟ لأنه يقصد معنى ضمنياً معيناً غير المتبادر إلى الذهن!.

هذه الطفولة السياسية بهذه اللغة الضحلة يعبر عنها وبها العالم الفلاني على مسامعنا، والمربي العلاني أمام أعيننا، والأستاذ الجامعي الألمعي في حواراتنا؛ يجري ذلك أمام الجمهور ومع الطلاب، ويظنون أنفسهم متكلمين وسامعين أنهم يحسنون صنعاً.

ومما يثير الشفقة على أولئك أن أحدهم يغوص في صفة متقدمة في الشأن العام، ويتعلق بالعمل السياسي ويهتم به بكل جوارحه، ثم يقول أمثال هذه العبارات، وهو بهذا يشبه الطفل الذي يركض باتجاه أمه بعد غيابها عنه فيعانقها ويتشبث بها بكل كيانه، ثم يخاطبها بلسانه: أنا لا أحبك يا أمي، ولكنه على الحقيقة ينبض بحبها دون أن يكون قادراً على الموازنة بين كلماته وحركاته، وبين حاجاته ومشاعره وسلوكياته.

وما يثير الاهتمام والانتباه أن منظمات المجتمع المدني – هكذا يطلقون على أنفسهم – يعلنون حيادهم السياسي دون أن يفرقوا بين السياسة والحزبية، وبين العدالة الاجتماعية والانحياز لها وبين القهر السياسي والاستبداد والرضوخ له، وبين الموقف واللامبالاة.

والحيادية هنا تعني اللاانتماء والخضوع. وهذا ما وقعت به منظمات سورية لا بأس بها عندما روجت أنها خارج نطاق السياسة وهي تمشي من حيث يعلم أغلبها في تنفيذ سياسة الأميركي أو الأوروبي أو سواهما على حساب الإرادة السياسية السورية، والتي تصب في خانة العصابة المجرمة نفسها التي هم ضدها، وأحياناً على حساب البنية الثقافية المجتمعية الأصيلة عندما دخلوا في دعم الجندرة وتمكين المرأة حسب وصفهم ليخلصوا إلى إسهامهم في تفكيك الأسرة وتضييع أطفالها؛ أو حينما تلاعبوا بضرورات الناس واسترزقوا بحاجاتهم واستغلوها مقابل حفنة من الليرات الملونة بآهات الأيتام ودماء آبائهم وأعراض أمهاتهم؛ أو لما باعوا الملفات، وتاجروا بالمعلومات، واستهتروا بالثروات عن دراية، فسهلوا سرقتها وتمريرها إلى الأعداء الأصدقاء.

والأنكى من ذلك أنهم تشدقوا دهراً من الزمن بابتعادهم عن العمل السياسي، ثم ليسارعوا ويلهثوا وينغمسوا في أتون اللجنة الدستورية، ولتضاف نساؤهم إلى ديمستورا حفار الآبار الارتوازية، بل المبعوث الأممي، وكأن كل ذلك لا علاقة له بالسياسة! ثم لم يتركوا ورشة أو لقاءً أو مؤتمراً يبحث في الشأن العام إلا حضروه، ثم يعلنون بملء الفم: لا علاقة لنا بالسياسة!.

ولم يجرؤ هؤلاء حتى اللحظة على الإقرار بكوارثهم، بل ما زالوا يتعالون على الهياكل السياسية المصنعة والفصائل العسكرية مع أنهم أكثر خللاً سياسياً منهم بمرات ومرات.

وما أجمل مسمياتهم حين تطالعك، فهم عنوان على الحرية والكرامة والعدالة والإنسان والحضارة والإعمار والتنمية والمرأة والطفل والحقوق والمساواة وهم يناقضون بسلوكياتهم أبسط معاني تلك العناوين المهمة.

تنتقل ثلة إلى العمل الاجتماعي ترفعاً على السياسي ظاهرياً، وحقيقتها أنها بدأت تستشعر الخوف من مقاربة بعض المواقف السياسية كما سبق لها، وتتحسب من إجراءات أمنية بحقها حيث تقطن؛ أو أن مشغلها دفعها نحو أعمال جديدة بعد أن أدوا مهامهم من تمييع العمل السياسي والعسكري واستنفاذهما بخطوات غير صحيحة حكماً؛ أو أنها تبحث عن أعمال أكثر جدوى مادية، إذ لم تعد تدر عليها السياسة ما كانت تدره سابقاً؛ أو أن من حول تلك الثلة أدرك مستواها السياسي السائل للغاية وغير المتماسك فيهرولون لسب السياسة للتغطية على إمكاناتهم المتواضعة، هذا إن وجدت أصلاً.

لا يوجد مجال حياتي على الإطلاق إلا ويرتبط في السياسة، أو يدخل فيها، ويمكن توظيفه لصالح جهة ما أو أشخاص معينين؛ فأن ينأى مجال حياتي ما من خلال أشخاصه عن السياسة فلا يتدخلون بها عملياً لأنها تحتاج إلى ملكات وأدوات ومهارات معينة فهذا محط تقدير من هؤلاء لأنهم يحترمون ذواتهم وقدراتهم وتخصصات الآخرين وإمكاناتهم، ولكن إن نأى هذا المجال من خلال رواده عن السياسة بحجة النزاهة الخلقية فهم – باعتقادهم – ومجالهم أكبر من أن يهتموا بالسياسة، فهذا تعال يعود إلى جهل مركب، أو حالة انتهازية تقارن بين المنافع والمغانم وعدمها، أو هروب إلى الأمام من الاعتراف بالقصور وعدم القدرة، أو نفاق اجتماعي، فضلاً عن البساطة إذ إن هذا المجال وأشخاصه سيكونون ملحقين بسياسة ما عاجلاً أو آجلاً.

وهذا ما يجهله الكثيرون من الذين يدعون التفوق في مجالات متعددة ويريدون أن يغلفوا جهلهم السياسي بالتعالي عليها والهروب منها وتحاشيها، مع أنهم ليسوا مضطرين لذلك، فكم من مبدع في مجال لكنه من أجهل الجهلاء في مجال آخر دون أن يضيره ذلك.

يحمل مجتمعنا بفئاته المختلفة مسؤولية كبرى تجاه السياسة والسياسيين فلا يكفي أن يكون قادراً على التضحية مثل كل تاريخه، ولا يكفي أن يثور ضد الاستبداد ويقاوم القمع والطغاة لكسب الحرية والكرامة مع أنه أمر عظيم يستحق كل تبجيل.

بل لابدّ من الوعي بأثر السياسة ومؤداها وأهميتها، فمن خلالها يتم تتويج كل ذلك، أو يضيع، أو يجير لصالح الخصوم والأعداء.

ويعتبر العمل في السياسة من أجل الأعمال في الحياة وأكثرها نفعاً على المجتمعات فيما إذا كان صاحبها مهموماً بأوضاع الناس وعيشهم وفكرهم وثقافتهم وعلاقاتهم الاجتماعية ورقيها، وهو بهذا المعنى لا يكاد يضاهيه عمل لأنه سيلقي بآثاره الإيجابية على كل مناحي الحياة ويطورها بدءاً من التعليم وليس انتهاءً بالاقتصاد واستقلال الشخصية وبروزها ثقافياً وحضارياً.

والسياسة هنا ليست خطابة وشعارات وحسب، مع أهميتهما، بل هي رؤى ومواقف وسلوكيات ومشاريع وبرامج لا يستطيعها إلا قلة نوعية نادرة، ولم تتمكن مجتمعاتنا في العصر الحديث من فرزها وتمييزها والتمسك بها، وهذه هي الثغرة التي علينا جميعاً أن نسدها ليبدأ بناؤنا على أرض صلبة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني