fbpx

البحث عن الحرية: مفهوماً وتطبيقاً، وتَشَكُّل الفوضى السُورية

0 418

واحدٌ من أهمّ المصطلحات التي تشهد إشكاليّةً في المجتمعات قيد الانتقال أو التغيير، هو مصطلح الحرية، حيث أنّ كثيراً من المجتمعات انزلقت إلى مرحلة الفوضى نتيجة غياب ضبط هذا المفهوم، سواء من قبل النخب الثقافيّة القائمة على الشأن العام، أو نتيجة هشاشة السلطة أمام قوّة المجتمع، وعدم قدرتها على ضبطه وفرض معايير لصالحه. وهنا نتحدّث عن الحرية بمعنى التحرّر من القيد وحريّة التصرّف والقدرة على الاختيار دون ضغوطٍ أو إجبارٍ من أشخاصٍ آخرين أو سلطة، وأن يفعل ما يشاء وقت ما يشاء.

أولاً-الإشكاليّة على مستوى المفهوم:

الحرية قانونياً، هي القدرة على التصرّف في مجتمعٍ منظّم، ضمن حدودٍ وقواعد قانونيّة، تضبط هذا السلوك الفردي. فالقانون هو من يسنّ الحريات، ويُحدّد كيفيّة مزاولتها وحمايتها وضوابطها. 

والحريّة قيمةٌ وسطيّة، تسير بين حدّين متطرفين، يمينها يكون الاستبداد وقمع الحريات وتكميم الأفواه، ويسارها حالة الفوضى والاعتداء على حريات الآخرين بحجّة الحرية ذاتها، وتفكيك قِيَم المجتمع، ودفعه نحو انهيارٍ قِيَمِيٍّ وأخلاقيٍّ ومعرفي.

شكل رقم (1) موقع الحرية وحدودها المتطرفة

ولا يمكن للفرد أن يكون مُنتِجاً فكرياً، ومُبدِعاً، وقادراً على نقد الخلل وتصحيحه، إلا في ظلّ بيئةٍ حُرّة تسمح له بتداول الأفكار ومناقشتها وتحديث ما يمكن منها. وبشكلٍ أوّلي، يمكن لنا أن نضع ضوابط لهذه الحرية، في مجموعة حدود، أبرزها:

– أن هناك حدوداً للحرية، فهي ليست مطلقةً ومفتوحة.

– أبرز حدودها، هو حرية الآخر، فلا يجوز أن تكون حرية فردٍ على حساب فردٍ آخر، أو حرية مُعتَقدٍ أو جماعةٍ أو حزب، قائمةً على حريّة الآخر المختلف عنه.

– ومن حدودها، القبول بالتعدّد والاختلاف.

– لكن الحرية لا تشمل حرية إهانة الآخر والاعتداء اللفظي أو المعنوي على شخصه ومعتقده وانتمائه.

– هناك حرياتٌ أساسيةٌ لا يمكن التخلّي عنها، وهناك حرياتٌ خاصّةٌ بكلّ مجتمعٍ من المجتمعات، تتوافق مع قِيمه وعاداته وسلوكيّاته وثقافته ومعتقداته، ولا يمكن فرضها على المجتمعات كافّة بطريقة الإجبار، فذلك يتنافى مع مبدأين أساسيين: حرية الآخر، والشخصيّة الثقافية المستقلة.

ولتوضيح فكرة أنّ حرية الفرد تنتهي عند حرية الآخر، فإنّنا نقصد أنّ الحرية كمٌّ محدودٌ وليست مطلقة، ولنفترض أنّها تتمثّل كميّاً برقم 100، فإنّها تُوَزَّع على خمسة أشخاصٍ بالتساوي فيما بينهم، لكلٍّ منهم 20 حصّة، لكن إن سمحنا لفرد أن يهين معتقد آخر، فإنّنا بذلك، نمنحه جزءاً من حريّة الآخر، ونذهب باتجاه فكرٍ استبدادي/قمعي. وإن سمحنا لكلا الطرفين أن يُهينا معتقدي بعضهما، اندفعنا نحو الفوضى والنزاعات الثقافيّة التي قد تتحوّل إلى نزاعاتٍ مسلّحة.

شكل رقم (2) توزيع الحريات بالتساوي/التوازن بين الحريات
شكل رقم (2) توزيع الحريات بالتساوي/التوازن بين الحريات

ثانياً-الإشكالية على مستوى التطبيق:

يرى “أمارتيا سن”، أنه لابدّ من وجود نوعٍ من “الشروط الحديّة”، منها أهميّة الحرّيّة وإمكانيّة إقامتها على أرض الواقع، لتأخذ مكاناً معقولاً بين حقوق الإنسان الأخرى. وبمقدار ما يحتاج الأمر إلى قدرٍ من الاتّفاق على الإطار الاجتماعيّ لحقوق الإنسان، لا يكون الاتّفاق الذي يسعى له مجرّد اتّفاقٍ على وجود أيّة أهميّةٍ أخلاقيّةٍ لحرّيّة معيّنةٍ لشخصٍ معين، بل على صلة تلك الحرّيّة كذلك بتلبية الشرط الحدّيّ القائل بوجوب أن تكون للحرّيّة أهميّةٌ اجتماعيّةٌ كافيةٌ لإدراجها بين حقوق الإنسان الأخرى للشخص، وبالتالي، ترتيب واجباتٍ على الآخرين بالتفكير في الكيفيّة التي يمكنهم بها مساعدة هذا الشخص على تحقيق تلك الحرّيّات(1)”.

أمّا الحرّيّات والحقوق الأساسيّة، فيُحدِّدها “سِن” بالتفكير والضمير، والمشاركة السياسيّة وإنشاء الجمعيّات والكرامة الشخصيّة والمحدَّدة بالقانون عموماً. فالحرّيّات السياسيّة تُؤمِّن فرص التأثير في القرار والتشريع، بلا مقايضةٍ بالمنافع الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بحيث لا تُحَدُّ حرّيّةٌ إلا في سبيل أخرى. 

ويرى “جون رولز” أنّها تضمن مع حرّيّة التفكير الرقابةَ على السياسات العامّة، وتُعزِّز حرّيّةُ الضمير والتجمُّع القدرةَ على الفهم العقلانيّ للخير ومراجعته. أمّا الحرّيّات والحقوق الأخرى، فهي ضروريّةٌ لممارسة القوى الأخلاقيّة. وهنا، لابدّ من تأكيد أنّ “الأسس الاجتماعيّة لاحترام الذات” تقتضي حماية الملكيّة الفرديّة، الأمر الذي يعني أنّ مُلكِيّة المصادر الطبيعيّة ووسائل الإنتاج وإدارتهما اجتماعيّة، على الرغم من إمكانيّة تسويغ غير ذلك وفق الأوضاع(2). 

وكان “أمارتيا سن”، قد وضع خمسة أنماطٍ من الحرّيّات، تتمثَّل في(3):

– الحرِّيّات السياسيّة: مجموعة الحرّيّات المتاحة للأفراد للتعبير والتصويت، والمعارضة والتنظيم والتجمُّع، والصحف الحرّة.

– التسهيلات الاقتصاديّة: مجموعة الفرص المتاحة للأفراد في استخدام الموارد الاقتصاديّة لأغراضٍ استهلاكيّةٍ وإنتاجيّةٍ وتبادليّة، وهذا يتوقف على الموارد التي يمتلكها الفرد، وشروط التبادل، وسهولة الوصول إلى مصادر التمويل.

– الفرص الاجتماعيّة: تتعلَّق بالإجراءات المتَّخذة من قبل المجتمع بهدف زيادة الحرّيّات الجوهريّة المرتبطة بعيش الأفراد على نحوٍ جيّد (الصحة، والتعليم). لهذا فإنّ مُمكِنات الوصول إلى الخدمات تؤدِّي إلى تحسين نوعية الحياة، وكذلك تُسهِم في تدعيم المشاركة في النشاطات السياسيّة والاقتصاديّة.

– ضمانات الشفافيّة: تتعلَّق بالحرّيّات والمتطلَّبات الاجتماعيّة لبناء الثقة، وهو ما يَسمَح بمحاربة الفساد واللامسؤوليّة.

– التأمين الحمائيّ: يرتبط بالإجراءات الحكوميّة المتعلِّقة بتحقيق العدالة الاجتماعيّة، ومن ضمنها إجراءات الحماية الاجتماعيّة (الضمان الاجتماعيّ) للفئات المهمشة والمعوزة.

كما اقترح الفقهاء تقسيماتٍ مختلفةً للحريّات العامّة، فميّز “دوجي” الحريات العامّة السلبية، وهي التي تظهر في صورة قيودٍ على سلطة الدولة، من الحريات الإيجابية التي تتضمّن خدماتٍ إيجابيةً تُقدّمها الدولة للأفراد، غير أنّ “دوجي” نفسه لم يجعل من هذه التفرقة أساساً لتقسيمٍ عامٍّ للحقوق والحريات. أمّا “إسمان” فقد ردّ الحريات الفردية إلى قسمين: الحريّات ذات المضمون الماديّ أو التي تتعلّق بمصالح الفرد الماديّة، والحريات المعنوية التي تتّصل بمصالح الفرد المعنوية ويضمّ النوع الأول(4):

1- الحرية الشخصية بالمعنى الضيق، أيّ حق الأمن وحرية التنقل.

2- حرية التملك.

3- حرية المسكن وحرمته.

4- حرية التجارة والعمل والصناعة.

أما النوع الثاني من الحريات، أي تلك التي تتّصل بمصالح الأفراد المعنوية فهي تشمل:

1- حرية العقيدة وحرية الديانة.

2- حرية الاجتماع.

3- حرية الصحافة.

4- حرية تكوين الجمعيات.

5- حرية التعليم.

ويُلاحظ أن “ريفيرو” قدّم تفرقةً مُختلفةً للحريات العامّة، إذ ميّز نوعين منها(5):

1- الحريات التي تتعلّق بالإنسان وتتعلق بوجوده المادي مثل حرية التنقّل والحرية الشخصية.

2- الحريات التي تتعلّق بالإنسان باعتباره كائناً أخلاقياً وفكرياً، مثل حرية الرأي وحرية التعبير والاعتقاد.

3- الحريات الاقتصادية والاجتماعية، مثل حرية التجارة والصناعة والحريات النقابية… إلخ.

وعند دراسة الحريات، سنلحظ أنّ كثيراً من المراجع والمختصين يُرفِقُونها دوماً بالحقوق، حيث لا يمكن فصل حرية الأفراد في سلوكهم، عن حقوقهم التي يمارسونها، فيجب أن يكونوا أحراراً لممارسة تلك الحقوق، سواءً أكان حقاً أصيلاً لا يمكن التخلي عنه، أو حقّاً مكتسباً تُنظِّمه السلطات وتُحدّد آليّات ممارسته وكيفية حمايته. وبالمجمل سيكون لدينا مجموعة حرياتٍ/حقوقٍ فرديةٍ شخصية، وأخرى مجتمعيةٍ، وثالثةٌ اقتصادية، ورابعةٌ سياسية. وهناك الكثير من المواثيق الدولي التي أطّرت أهمّ الحريات/الحقوق، وصارت مرجعياتٍ عالمية، ومنها مثلاً:

أولاً-إعلان حقوق الإنسان والمواطنة الفرنسي عام 1789، والذي حدد الحريات بما يلي:

– يولد الأفراد متساوون.

– حقّ الحرية.

– حقّ التملك.

– حقّ الأمن.

– حقّ مقاومة الاضطهاد.

– الأمّة مصدر السيادة.

– الحرية هي كلّ فعلٍ لا يتسبب في إيذاء الآخرين.

– لا يحقّ للقانون أن يمنع حقوقاً وحريات، إلا أن كانت تؤذي الآخرين.

– الحقّ في المساهمة في صنع القانون.

– لا يجوز مخالفة القانون، ولا يحقّ اعتقال فردٍ إلا بنصٍّ قانوني.

– لا يمكن معاقبة فردٍ على جريمةٍ إلّا بنصٍ قانوني.

– جميع الأفراد أبرياء حتى تثبت إدانتهم.

– للأفراد الحقّ في التعبير عن آرائهم حتى في المسائل الدينية، على ألّا يتسبب ذلك بإخلال النظام العام.

– حرية التعبير عن الآراء والأفكار.

– حقّ التحقق من الضريبة.

– حقّ مساءلة الموظف العمومي.

– التملّك حقٌّ مقدس ومصان.

ثانياً-الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، وأهم الحقوق والحريات التي جاءت فيه:

– يُولَد الناس أحراراً متساوين.

– حقّ التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في الإعلان.

– الحقّ في الحياة والحرية والأمان على شخصه.

– لا يجوز استعباد أحد.

– لا يجوز إخضاع أحدٍ للتعذيب أو الحطّ من كرامته.

– الحقّ في أن يُعتَرف له بشخصيته القانونية.

– المساواة أمام القانون.

– حقّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية.

– لا يجوز اعتقال او حجز أو نفي أيّ شخصٍ تعسفياً.

– الحقّ بمحاكمةٍ مستقلّةٍ نزيهة.

– كلّ متّهمٍ بريءٌ حتى تثبت إدانته.

– لا يجوز التدخّل التعسّفيّ في الحياة الخاصة.

– حريّة التنقل داخل الدولة، أو مغادرتها.

– حقّ التماس ملجأٍ في دولٍ أخرى.

– حقّ التمتّع بجنسية، ولا يجوز الحرمان منها تعسفياً.

– لكلّ رجلٍ وامرأة، حق الزواج دون قيدٍ أو إكراه.

– حقّ التملك.

– حرية الفكر والوجدان والدين.

– حقّ التمتّع بحرية التعبير عن الرأي.

– حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية.

– حقّ المشاركة في إدارة الشؤون العامة.

– حقّ الضمان الاجتماعي.

– حقّ العمل واختيار نوع العمل.

– الحقّ في الراحة وأوقات الفراغ.

– الحقّ في مستوى معيشةٍ يضمن الرفاه له ولأسرته.

– حقّ التعليم.

– حقّ المشاركة في حياةٍ ثقافية.

– حقّ التمتّع بنظامٍ اجتماعي ودولي تتحقّق في ظلّه الحقوق والحريات.

– على كلّ فردٍ واجباتٌ إزاء الجماعة.

– القانون هو من يضع قيوداً على الحقوق والحريات، لضمان الاعتراف بها.

وطبعاً هناك الكثير من المرجعيات القانونية الخاصّة بالحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لا يتّسع وقتنا لتناولها.

ثالثاً-اضطراب الحرية على المستوى السوري:

من المحورين السابقين، يمكن أن نضع محدّداتٍ أساسية، بنائيّة، وهي:

– أنّ الحرية مسؤوليّة، وتشاركيّة، ومضبوطة، ووسطيّة، ومقيّدة.

– أنّ السلطات هي من يقوم بتقييد/ضبط هذه الحريّات، بما يحفظ للمجتمع كيانه وثقافته.

– أنّ الحريّات تترافق مع الحقوق في كثير من الأحايين، حتى غدت الحرية حقاً للفرد.

– أنّ هناك عدّة مستوياتٍ منها: سياسية، اقتصادية، ثقافية، فردية/جماعية.

وتشهد الحرية في الفكر العربي كثيراً من التشويش والتشويه والاضطراب، سواءً على المستوى السياسي الذي تدفع شعوب العالم العربي دماءها ثمناً للمطالبة بالحرية السياسية، أو على المستوى الاجتماعي والهُويتي والاقتصادي، بين أطرافٍ عدّة، تتمثّل في: سلطاتٍ قمعيّةٍ مستبدّة، وقوى محافظةٍ تقليديّة، وقوى متطرّفةٍ يمينيّةٍ ويسارية، وقوى معتدلةٍ تحاول التوازن في بيئةٍ بالغة التعقيد والاضطراب.

وبما أن الانفجار العربي قبل عقدٍ من الزمن، كان انفجاراً تحرُّرياً، يرنو إلى تحقيق الحرية السياسية، وإعادة صياغة العقود الاجتماعية في الدول العربية، وإعادة إنتاج الهُوية، فإنه كان تفكيكيّاً بنائيّاً، بمعنى أنّه سعى إلى تهديم البنى التسلّطية المفروضة منذ ما بعد الاستقلالات العربية، وإعادة البناء على أسسٍ تشاركيةٍ يكون معيارها المواطنة والمساواة والحرية والمشاركة السياسية.

لكنّ الاضطراب سيقع حين يُخفِق مشروع إعادة البناء، على عدّة أشكال: حروبٌ أهلية، احتلالاتٌ خارجية، ثوراتٌ تسلّطيةٌ مضادّة، تفكيك الدولة، وسواها، هنا كان مشروع الحرية عربياً قيد التحطيم. ويمكن لنا أن نأخذ الحالة السورية نموذجاً بالغ الأهمية.

فالانكسار الذي حصل في الفعل الثوري السوري، وخصوصاً منذ عام 2017، ترافق مع إخفاقٍ أشدّ منه، وذلك على مستوى إنتاج سلطةٍ ثوريّةٍ ضابطة، وبالتالي فقدنا أحدّ أهم عناصر الحرية، وهو الضبط السلطوي (الضبط البنّاء)، وتحوّل المجتمع السوري إلى مجتمعاتٍ متباينة أولاً، ثمّ إلى توجّهاتٍ تزداد فرديةً أكثر فأكثر، وهو ما سمح لكلٍّ أن يشتغل على حريته بغضّ النظر عن حريّات الآخرين، وهذا سيزيد مشهدنا تعقيداً، ويدفعنا أكثر فأكثر نحو استحالة البناء القِيَمِيّ الجامع للسوريين.

تتعدّد أشكال هذا التعقيد والاضطراب، وأبرزها: 

– الاضطراب على مستوى تهديم قيمة الحريات الفردية، وتحويلها إلى مجال عام، بمعنى إلغاء حدود الحرية الفردية، وتركها مفتوحة، على حساب حريات الآخرين، كالاعتداء اللفظي والإهانة للشخص أو معتقده أو توجهه السياسي (بحجّة الحرية).

– رفض مبدأ التعددية، والاشتغال وفق مبدأ إقصائيٍّ للمخالِفين، بغضّ النظر عن شكل المخالِف وأيديولوجيته، فالإقصاء – والذي يعني تقييد الحريّة على جماعة بعينها – طال التوجهات كافّة.

– إلغاء حدود القِيَم الجماعية، مقابل محاولة كلّ مجموعةٍ بشريةٍ فرض نمطٍ من القِيَم المُستَجلَبة، تتوافق مع أهواءٍ شخصية، أو إملاءات مموّلين خارجيين، ومحاولة تحويلها قسراً إلى قِيَمٍ سوريةٍ مجتمعيّة، رغم رفض غالبيّة الشعب السوري لها (مثال: حريات الشذوذ الجنسي).

– التخلّي عن المسؤولية عبر الحرية – وخاصّةً بين النخب – لتُحيلها إلى حريّةٍ نفعيةٍ شخصيّة، تسمح لهذه النخب، تهديم البنيان الثقافي السوري (الجامع)، وخلق بنيانٍ استعلائيٍّ إقصائي، دون تحمّل مسؤوليّة مزيد من التهديم الذي يحصل في الهوية السورية نتيجة هذه النفعية (وأحياناً الغريزية).

ونأخذ في هذا المقال، مثال زِيّ المرأة واحد من أبرز هذه الأشكال، ونرى أنّ بعضاً من النخب الثقافية، وفي نقاشها للحريات الأساسية والسياسية، وفي ظلّ صعود تيارٍ نسوِيٍّ متطرّفٍ غير مكتمل البنى المعرفية، يدفع باتجاه تحويل نقاش الحرية السياسية نحو نقاش زي المرأة.

يتّخذ هذا النقاش شكلين متضادّين دائماً، رغم أنّ أصحاب هذين الشكلين، ينافحان عن الحرية الفردية، لكنّهما يلتقيان حول تقييد هذه الحرية، تقييداً يحصر الحرية بجماعةٍ مُحدّدةٍ تكون على شاكلة (الأنا)، ويُصرّ التياران على نفي الحرية الفردية عن (الآخر) المختلِف. ويتمثل هذا الصراع الفكري حول زي المرأة (الحجاب والسفور)، فنرى كلّ طرفٍ يُغلق الحرية الفردية على المرأة التي على شاكلته، ويعتبر الأخرى المختلِفة، متأخّرةً أو غير أخلاقيةٍ أو لا حقوق فرديةً لها في اختيار حريتها.

ربّما يتضاعف الأمر سوءاً حين يتّصل بنخبٍ مُثقّفةٍ تطالب دوماً بما تسميّه “تحرير” المرأة من حجابها، باعتبار أنّ المرأة جاهلةٌ بصالحها وحريّاتها، وأنّهم “النخبة المثقفة” أعلم منها بشؤونها الخاصّة، وذلك انتهاكٌ فاضح للحريات الفردية التي يتمّ المنافحة عنها.

ويتجاوز الموضوع هذا الحدّ، إلى درجة إهانة الآخر، وإهانة معتقده وحريته في التفكير، بما يهدم قيمة الحرية من أساسها، ويعيد إنتاج الصراع الفكري بين أفراد المجتمع، وهو صراعٌ هدّامٌ لا قيمة فكرية له، سوى تكريس العداء بين جماعات وفئات المجتمع من جهة، وتكريس خطاب كراهيةٍ وكراهيةٍ مضادّة.

هذا السياق، هو سياقٌ من تيّارٍ عربي كبير، يدّعي أنه ليبراليٌّ علماني، وأنفي هذه الصفة التي يحاول التسلّط عليها؛ لأنه يرفض في حقيقته الحريّات الفردية بمعناها الليبرالي والعلماني، انطلاقاً من رفضه حرية المعتقد الديني الإسلامي فقط، لذلك يحاول تهديم وإهانة الآخر “المسلم” وإهانة معتقده (بشكلٍ مباشرٍ أو بالدفاع عن أولئك الذين يمارسون خطاب وفعل الكراهية)، بحثاً عن بناء مجتمعٍ “متجانس” مع هذا الفكر الإقصائي غير المتحرر من قيود الكراهية (هو إعادة إنتاج الثقافة الأسدية).

هذا التيار، يحيلنا إلى ما سبق وأن أسميته تيار “العَلمانية الطائفية”، أي أنّ المُشكل لديه ليس سياسياً أو معرفياً أو اقتصادياً أو حضارياً، أو حتى دينياً، المُشكل لديه هو الدين الإسلامي باعتباره منظومة قيمٍ وضوابط خُلُقِيّة، وباعتباره ثقافةً حضاريةً يرفض هذا التيار وجودها، تعبيراً عن إخفاقه في إيجاد بديلٍ للمنظومة الإسلامية، لذا يحاول إلغاءها.

يمكننا دراسة حالاتٍ متعددة، في البيئة/البيئات الثقافية السورية، لتبيان حجم الضرر الذي وقع، والذي يتّسع، وكيف ننساق إلى مزيدٍ من حالة الفوضى الهدّامة، التي تشتغل اليوم على ما تبقّى لنا من قيمٍ اجتماعيةٍ كانت حافظة لفكرة المجتمع الواحد، وكيف تمّ تحويل مطلب الحريّة السياسية، إلى اشتغالٍ فوضوي.

هوامش الدراسة:

(1) أمارتيا سن، فكرة العدالة، ترجمة: مازن جندلي (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2010)، ص 426 و515.

(2) جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2009)، ص 151، 153، 154، 254، 257.

(3) رضوان بروسي، مرجع سابق، ص 22.

(4) مهند نوح، “الحريات العامة”، الموسوعة العربية: http://arab-ency.com.sy/law/detail/163574

(5) المرجع السابق نفسه.

 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني