fbpx

الاستبداد وسوق الوهم

0 434

(الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال) عبد الرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”.

لم تكن تطورات الأحداث في سوريا وكثافتها منذ بدء الحراك، إلا مادة دسمة للإعلام، يغيب عنها ضمن فوضوية الطروح التوجيه الدقيق، فهي رغم مأسوية إيقاعها وانعكاسها أولاً وأخيراً على الشعب السوري، تنحو لأن تكون مجرد أحداث، تحثّ بغالبيتها على بيع الوهم أكثر من دراسة الوقائع، والتي ازدادت تجذراً نتيجة حالة الانحباس وضيق المخارج السورية، ما دفع باتجاه تحويل الأحداث “الآنية” لمسار توقعات حول تغييرات أوسع وأشمل، دون حساب لعوائد ونتائج هذه الطروحات، وهو ما حدث في الآونة الأخيرة التي التهبت فيها الأقلام وانطلقت في الاتجاهات كافة لتحليل وتركيب خلافات “القصر” وما تلاها من توقعات تروّج لاعتلاء “سيدة القصر” دفة الرئاسة السورية. 

المعضلة السورية التي حُيّدت عن مقعدها الأول في سياق الأحداث العالمية، رغم استمرار المأساة، بقيت أصداء القتل والدمار والتجويع تتردد بين الحين والآخر، مُحمّلة بتصورات بعيدة عن الحلول أو احتمالات الحلول، لتزيد الفوضى المحيطة بالواقع السوري، وكان منها، تلك الإطلالة لابن خال الرئيس رامي مخلوف يطلع السوريين فيها، على مجريات أمور القصر وناشراً الغسيل “القذر” لخلافات السلطة السورية مع تصريحات علنية لافتة في انتقال الثروة من بين يديه “الحنونتين” وصيانته لأموال “الدولة” إلى يد زوجة الرئيس “أسماء الأخرس”، التي ستستولي عليها لشراء “اللوحات والفساتين”، في مسرحية أقل ما يقال عنها إنها هزلية، رغم ما حملته من الدلالات والرسائل المختلفة للداخل السوري والخارج، والتي أشبعت وصفاً وتدقيقاً. 

حادثة الخلاف على السلطة بطابعها “المسرحي”، أتت في وقت يُسلب فيه السوريين حقوقهم الطبيعية في الغذاء والحياة، ويتعرضون لضغوط لا تحتمل من الاتجاهات كافة، بعد أن أنهكتهم الحرب، ليواكبها ضجيج مختلف ومتباين اكتملت فوضويته في طرح الحادثة كرؤية سياسية، يغيب عنها بقصد أو دون قصد التركيز على بديهية، أن هذا المال المتعارك عليه هو “أموال الشعب” التي استولت عليها السلطة، وأن هذا الخلاف العلني وإشارة “ابن الخال” إلى أنها مال الفقراء لا يعيد للفقراء حقوقهم، ولا يطعم الجائعين، فهم لم يأتمنوه عليها، أو يأتمنوا النظام عليها، ففي واقع يغيب عنه العقد بين الحاكم والمحكوم، تكون إدارة السلطة للمال العام هي استيلاء على ثروة الشعب. 

إسقاط الشعب من معادلة الثروة في حسابات الأنظمة الاستبدادية أمر بديهي، فالثروة بعمومها جزء من السلطة، أما لفيف الناس المجرّدون من “الملكية” أو فاقدوا الأمل بحيازتها فلا يُنظر إليهم إلا كجزء فائض عن الحاجة، وهم بالعموم يمثلون “الرعية” التي يمكن إدارتها والسيطرة عليها بالوسائل الممكنة كافة، والملكية هنا لا تقتصر على المال والثروة بشقها المجرد بل على رأس المال بأبعاده كافة، من رأس المال المجتمعي إلى رأس المال الاقتصادي والسياسي، هو كما يقول الكواكبي: “كل ما يُنتفع به في الحياة”، وهذا ما كان في نظام الاستبداد السوري الذي لم تتبدل توصيفاته منذ 74 عاماً، والتي ازدادت توحشاً في تحويلها السوريين حطباً لمحرقة حرب عبثية. 

إلا أن إسقاطها في بعض التوجهات الإعلامية له دلالات أخرى أقلها تحويل الشعب لمجرد “جمهور متابعين”، بل واستكمالها بسيل من التوقعات باعتبار هذه الحادثة أساساً لـ “التغير”، وأن السوريين صاروا على موعد قريب مع تسلم “أسماء الأخرس” لدفة الرئاسة السورية!.

العلنية في التقاتل، وما تلاها من توقعات كانت تميل في صياغة الحدث وتحليله ومحاكمته، إلى إخراج الشعب السوري أو من تبقى منه على الأراضي السورية من دوره كفاعل في التغيير، بل وتتجه نحو زيادة إذلاله، في تحويله مجرد متاع للحاكم ويمكن نقل وصايته من يد ليد أخرى. ناهيك أنها تبدو أقل تمعناً في الواقع السوري وممكناته، وأكثر بيعاً للوهم. فمسألة “التغيير” لم تعد قائمة على صراعات على السلطة من داخل القصر أو خلافات عائلية بين سيد القصر وأقربائه “ابن خال أو زوجة”، بل ممسوكة بالعديد من القوى الخارجية التي بنت قواعدها العسكرية واستقدمت ميليشياتها، وهي التي تدير القصر بمن فيه، فسوريا بلد تحت الاحتلالات، أما من تبقى من السوريين صاروا رهائن لما تفصّله هذه الاحتلالات. 

داخل الدوامة من التداخلات وحواجز التفاهمات المرتفعة، تبقى التوقعات بمجملها وسيلة إلهاء فوضوية تنفتح معها أسواق الوهم التي تختزل حلول الواقع ومعضلاته بـ “شخص”. وقد حدثت سابقاً بتداول اسم نائب الرئيس السابق فاروق الشرع لقيادة المرحلة القادمة، وإعطائه دوراً قيادياً رسمياً في عملية التسوية السورية، دون التطرق في حينها لمن رشّحه لقيادة المرحلة القادمة أو رضى بعض الأطراف الخارجية والداخلية من معارضة وموالاة. ليأتي طرح اسم أسماء الأخرس كمرشحة “سنية” بشكل عابر منذ الشهور الأخيرة في العام المنصرم. 

إن ما جرى تسليط الضوء عليه بشدّة مع معارك الثروة، حول انتقال قريب وسلس، لن يعني بحال من الأحوال التغيير المطلوب على المستوى السوري، ولا يمكن الإشادة به، فما حدث في العام 2000 لا يمكن إعادته، حتى روسيا التي تقف خلف الحدث كما أوردت وسائل الإعلام لن تقوم بمباركته، كما فعلت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، فروسيا الغارقة في المستنقع السوري تدرك أن الرئيس القادم سيكون نتيجة توافق دولي، وتدرك أن مجرد طرح البدلاء للرئيس الحالي بشكل جدي هو زيادة في الخلط والفوضى، التي لن تتمكن من ترتيبها، إن ما يعنيها حالياً هو التخلص من عقوبات قيصر وتحقيق السيطرة اللازمة على بلد تحت وصايتها لتضمن استمرارها على الأراضي السورية. 

وفي العودة لتوصيف الاستبداد الذي قدّمه الكواكبي منذ أكثر من مئة عام، نجد إجابة مختصرة عما حدث في سوريا من ردود أفعال على خلافات القصر وما رافقها من سيل التقولات حول انتقال الثروة والسلطة من يد لأخرى، والتي مهما ارتفع شأنها سيبقى “شيخ السوق هو السلطان” حسب قول الكواكبي أيضاً، ولكن هذا الشيخ يعرف حق المعرفة أن سوريا بعد الحرب والدمار ليست ما قبلها والمخاض السوري الطويل، لن يكون الخلاص منه باستبدال من داخل القصر، تبديل الثوب لا يغير في الأمر شيئاً، وأن هذا الحكم الذي يفترس السوريين بكل الأشكال الممكنة لن يبقى طويلاً، والشعب الذي يتجرّع المأساة بصمت يعرف أن لا أحد من حقه امتلاك الشعوب والأوطان، وما يحتاجه السوريون صار رهناً بمشروع إنقاذ كامل ومتكامل للخلاص من المشكلات العالقة والكثيرة على الأصعدة كافة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني