fbpx

الإقصاء السوري

0 313

يعبر الإقصاء بمفهومه الواسع عن أحد أسباب اندلاع الثورة السورية، إذ وطد النظام السوري أركان حكمه عبر إقصاء شامل وكامل، إقصاء المجتمع والنخب السياسية والثقافية، وإقصاء الكفاءات والخبرات العلمية والمهنية. محولاً سورية إلى ما يشبه المزرعة الصغيرة المحكومة من مافيا، أو مجموعة صغيرة من الأشخاص غير القابلين للمس أو التشكيك أو حتى النقد. حيث أصبح كل ما يخص الحكم وشؤونه خطاً أحمر يحظر على أي شخص الاقتراب منه وإبداء تحفظ أو معارضة أو حتى مجرد نقد بسيط له، متذرعين بأنها قرارات مصيرية ووطنية لا يجوز المساس بها.

وقد أخفى النظام السوري ممارساته الإقصائية خلف عناوين السيادة الوطنية والحرص على مصلحة الوطن والمواطن، من أجل الاستئثار بنهب الاثنين. وهو ما نجح به النظام حتى اندلاع الثورة السورية في آذار من العام 2011، حين عبر الشعب السوري في مظاهراته الأسبوعية وأحياناً اليومية، وعبر التنسيقيات المناطقية الثورية، عن وحدة الشعب بأطيافه كافة، وعن إصراره على المشاركة المتساوية والعادلة كقاعدة لبناء الوطن في المرحلة التي تعقب إسقاط النظام، وكأننا أمام برنامج سياسي تشاركي يجعل المواطنة قيمته الأولى. لكن وعلى الرغم من هذه الروح الثورية التشاركية التعاضدية التي أظهرتها المظاهرات الاحتجاجية والثورية، إلا أن افتقاد السوريين للخبرة والممارسة السياسية الميدانية في ظل حكم الأسد قد أعاق قدرتهم على بلورة جسم سياسي ذي برنامج وطني واضح يعبر عنهم وعن تطلعاتهم، ويعكس الشعارات التي هتفوا بها في مظاهراتهم في الأشهر السلمية الأولى للثورة، أما لاحقاً وبعد سيادة المظاهر العسكرية داخل البلدات والمناطق الثائرة، فقد تم تهميش المجموعات المعارضة السلمية والسياسية، ومن ثم قمعهم واعتقالهم، أو ملاحقتهم بصورة تشابه سلوكيات نظام الأسد الاستبدادي، الأمر الذي أفرغ البلدات الثائرة من ناشطيها ومجموعاتها السلمية، أو على الأقل أفرغها من غالبيتهم. كما ساهم عنف وإجرام النظام في وأد العديد من المحاولات السياسية الرامية إلى بلورة برنامج سياسي وطني شامل يؤسس لدولة المواطنة والعدالة والمساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في هذه المرحلة الهامة، عبر الاعتقال والقتل المباشر.

وهو ما استغله النظام من جهة والمعارضة المأجورة من جهة أخرى، كي يصعّدوا من خطابهم الإقصائي حتى بلغ درجات خطرة وإجرامية، تصل للتحريض على القتل العشوائي تحت ذرائع واهية، وبتجاهل كامل لدور المنظومة القضائية العادلة، لتغيب الحاجة للمحاكمات القضائية القائمة على الأدلة، وحق المتهم بالدفاع عن نفسه. ما ساهم في تفشي مظاهر القتل العشوائي والكيدي في المناطق الخاضعة للنظام ونظيرتها الخاضعة للمعارضة. لنصبح أمام واقع أصعب وأسوأ مما سبقه، يتمثل بتعدد قوى الإقصاء الشامل، الإقصاء حد تبرير القتل، سواء من قبل النظام ومليشياته بذريعة معارضة النظام والتحالف مع محور الأعداء، والتي ترقى وفقاً لهم للخيانة العظمى، مروراً بإقصاء قومي؛ عربي/كردي؛ متبادل وفق المكان والزمان والقوى المسيطرة، إلى إقصاء طائفي يقسم السوريين إلى طوائف أو طائفة خيرة وجيدة، ويشيطن سواها، انعكس في كثرة المليشيات والمجموعات المسلحة ذات البعد الديني أو الطائفي، كالشيعية والسنية والمسيحية والدرزية، وإن كانت الأولى والثانية أخطر هذه المجموعات وأقواها وأشدها بطشاً وإجراماً.

بالإضافة إلى تفشي ظاهرة إقصائية أخرى بين السوريين داخل وخارج الوطن، تستند إلى إقصاء أي اختلاف مهما قل وزنه وضعف تأثيره حتى داخل اللون الواحد أو التوجه الواحد، حتى بتنا أمام تكرار دوري لمظاهر اصطفاف السوريين ضمن مجموعتين؛ مع أو ضد؛ على أي قضية أو موضوع ذي صلة بالشأن السوري، وأحياناً حتى ببعض القضايا التي لا تتعلق بالشأن السوري، فمثلاً هناك مؤيدو التدخل/الاحتلال العسكري التركي ومعارضوه، وهناك مؤيدو الحكم الذاتي الكردي ومعارضوه، وهناك مؤيدو العملية السياسية ومعارضوها، وعشرات الملفات والقضايا الأخرى. التي تستند إلى قاعدة إما معي أو ضدي، في استعادة لذات المنظومة الاستبدادية والأمنية النابذة للمشاركة والحوار، المنظومة التي تسلب حق الآخرين بإبداء الرأي، وتمنعهم من العمل السياسي، لمجرد الاختلاف في الرأي، أو التحليل السياسي، أو حتى لمجرد الخلاف حول الأولويات الراهنة.

طبعا ندرك جيداً أن تمادي المظاهر الإقصائية، وتحولها من ظاهرة خاصة بنظام الأسد الاستبدادي والأمني؛ إلى ظاهرة منتشرة على مجمل الجغرافيا السورية، يعود إلى انتشار السلاح والمال السياسي والمحسوبيات والمصالح الفئوية. بيد أن العكس غير صحيح بالضرورة، بمعنى أن تجاوز مرحلة العسكرة والدخول في خضم مرحلة انتقال سياسي فقط، خطوة غير كافية لاستعادة لحمة الشعب السوري وتعاضده الذي عكسته المظاهرات الثورية الأولى. كونها أضحت اليوم ظاهرة عسكرية وسياسية واجتماعية، تتطلب منظومة مواجهة شاملة يفرضها السوريون منذ الآن في حواراتهم وتجمعاتهم الاجتماعية والمهنية والسياسية، كي نوحد الجهود من أجل بناء دولة المواطنة الكاملة، دولة المؤسسات المستقلة، التي يتمتع فيها القضاء بسلطة مستقلة وحيادية، وبقدرة فرض قراره على الأرض. وهو ما يضمن محاسبة جميع المجموعات التي أجرمت بحق الشعب السوري، من المحسوبين على نظام الأسد إلى المعارضة المسلحة مروراً بالمجموعات ذات النزعات القومية العنصرية والعصبوية، بصورة عادلة وبعيداً عن الكيدية والمصلحة الشخصية.

وعليه أعتقد من المهم منذ الآن التأسيس لحالة سورية شعبية وسياسية ترفض جميع المظاهر الإقصائية، من تلك التي تطال إحدى مكونات المجتمع السوري، إلى إقصاء الرأي الآخر وتخوينه واتهامه بالعمالة لهذه الجهة أو تلك بصورة اعتباطية ودون أدلة واضحة على تلك التهم، كما يجدر بنا الانتباه إلى بعض وسائل الإقصاء غير العنفية، عبر المال السياسي، الذي يستغل الظروف الراهنة وحاجة السوريين للدعم والمعونة كي يفرض عليهم رؤية وخياراً محددين على قاعدة المال مقابل السياسة. لذا علينا أن نوضح أن الإقصاء الجسدي والإقصاء السياسي هما خطر حقيقي هدد ويهدد وحدة السوريين، ويقوض إمكانيات الحوار السوري/السوري المبني على قاعدة وطنية جامعة، ويحد من إمكانيات العمل المشترك، ويؤطر الوعي السياسي العام في حيز ضيق ومحدود، ويشوش على السوريين ويربك أولوياتهم، من العمل على قضايا التحرر والحرية والعدالة والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى أجواء خلافية وصدامية تخفي أو تعكس مصالح قوى وأطراف خارجية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني