مهنة جديدة
يحتاج الاقتصاد إلى دورات كثيرة لتوليد أنماط جديدة من العمل، وقد يحتاج إلى فترات أطول ليتم استيعاب الأنماط الجديدة والتدرّب عليها لاكتساب المهارات المطلوبة، فآثار الحروب تحفر عميقاً في وجه المجتمع، ليس على الصعيد البشري وخسارات الأرواح فقط ولا على الصعيد الإنساني والمعاناة التي ارتبطت مع مشردي الحرب لاجئيها ونازحيها؛ بل على الجرح الاقتصادي العميق الذي يؤذي الباقين على قيد الحياة، نتكلم هنا عن أحد جوانب الانهيار الاقتصادي الذي بدأ مع انهيار أول حجر من أبنية البلاد، حيث تضطرب الدورات الاقتصادية وتقفز إلى الواجهة وظائف لم تكن في الحسبان، أمراء الحرب، والمرتزقة، نماذج من هؤلاء يستغلون الألم لتوليد المزيد منه فهو رأس مالهم الذي يستثمرون فيه، ولكن الحروب والمآسي ذاتها تولّد مهناً جديدة لا تستطيع توصيفها بدقة فيمكن أن تنطبق عليها الكثير من التواصيف كمهنة “المُنتَظِر”.
المال في أيدي المواطنين صار للحاجات الأساسية فقط، وفقدت الرفاهيات قيمتها، بدأنا نشهد إغلاقاً لعدد من المحلات وأحياناً تحوّلاً في وظيفتها حيث اتجه معظمها لبيع الطعام وما يتصل به، فهو الحاجة التي لا يُستغنى عنها مهما ضاقت الأحوال، مازالت هذه المحلات تشهد ازدحاماً يجعلنا نتمتم “مازلنا بخير!”.
تركت هذه المعاناة الاقتصادية طوابير من العاطلين (الجدد) عن العمل، ممن لم يعرفوا أساليب التسول ولا عناوين جمعيات خيرية تسند حياتهم بما يسدّ الرمق، لذا كان لابد من ابتكار مهنة “المنتظر” التي لا تحتاج مالاً ولا تسبب أحمالاً إضافية على العمود الفقري، هي تحتاج وقتاً وبالاً طويلين، وهما متوفران لدى الكثير من الناس هنا ومنهم يوسف الشاب العشريني الذي كان يعمل أجيراً في محل بقالة مع صديقٍ له، وعلى حد تعبيره عندما “دقر الشغل” أراد رب العمل تسريح أحدهما، فغادر يوسف لئلا يضطر زميله الأربعيني للبحث عن عمل آخر لإعالة أسرته،
منذ شهور صار يوسف (الطالب الجامعي) عاطلاً عن العمل، حتى جاءت أزمة البنزين الأولى وصار أصحاب السيّارات يتأففون من الانتظار الطويل، كيف سيتركون أعمالهم ليوم كامل في انتظار محتمل لتعبئة خزان البنزين، فابتكر يوسف مهنة المنتظر ويعتبر نفسه أول من فكّر في هذا الأمر، قرر أن يبيع وقته لمن لديهم جدول مكتظ من الأعمال وصبر نافذ ونفس قصير، في بداية عمله عرض يوسف على قريبٍ لي أن يكون بديله في طابور البنزين، يقف يوسف في الطابور وينتظر دوره لملء الخزان مقابل خمسة آلاف ليرة “شقفة وحدة”، وعدد من الوجبات يكافىء زمن الانتظار، مهنة طريفة وغريبة عندما قابلت يوسف أحببت طريقة تقديمه لنفسه، قال بأنه يحصل على خمسة آلاف على ألا يتجاوز الانتظار ثماني ساعات “حسب قانون العمل” يتخللها وجبه دسمة على الأقل ويرتفع السعر إذا زاد زمن الانتظار، يستيقظ يوسف ويتهندم ويتعطّر لاستلام سيارته الجديدة وأخذها بنزهة تنتهي بعطر البنزين الذي يفرح قلوب الجميع في هذه الأيام، بالطبع يتمنى يوسف عملاً بدخلٍ ثابت وقريب من اختصاصه الجامعي “الحقوق” إلا أنه سعيد سعادة آنية بهذا العمل، وعندما سألته كيف تحصّل على زبائنك، أخبرني بثقة عالية “أن تعامله الجيد جعل زبائنه الأوائل يتبادلون رقم هاتفه ويطلبون مساعدته”، ثم أنشأ مجموعة على (الواتس أب) يتواصل من خلالها مع زبائنه، أخبرني يوسف بأن مهنة الانتظار لا تقتصر على محطات البنزين، فهناك من ينتظر أمام الأفران لتحصيل الخبز بطريقته الخاصة ومن ثم يبيعها بأضعاف السعر الحقيقي على أبواب الأفران، ولكن هؤلاء من هواة الملاكمة حتماً، فالتعرض للصدام دور في الخبز مخيفٌ الآن.
برتولد بريخت كتب نصه عن غودو بعيداً عن طوابير الانتظار، والأخوين رحباني جعلوا الناس تنتظر “الترين” في مسرحية المحطة، كان عليهم أن يلتقوا بيوسف ليعطيهم درساً في الانتظار مدفوع الأجر.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”