fbpx

محاضرات العجيلي بين التراث والسخرية

0 480

برع الأديب عبد السلام العجيلي في محاضراته ومقالاته، وهو الجانب الذي لا يعرفه عنه كثيرون، ولم يحظَ نثره بالنقد، في حين احتفى النقّاد بمجموعاته القصصية.

عبد السلام العجيلي أديب مبدع وسياسي مناضل وطبيب بارع؛ برع في السرد فتفنن في القصة والمقالة، وكانت له صولة وجولة في المحاضرات.

تتحول المحاضرة عند عبد السلام العجيلي إلى حكايات طريفة متتالية يضمّنها خبراته وتجربته في ممارسته الطب، ويقدّم بعض النصائح للأطباء الشباب عن أخلاق المهنة والعلاقة بين الزملاء. 

من محاضراته (من سيرة ابن خلدون.. الفكر أمام السلطان) التي ألقاها في الجزائر، يتحدث فيها عن الجانب النفسي والسلوكي عند ابن خلدون.

ينتقل بعد رواية الحكاية إلى مقارنة ظروف من يستمع إليها ويفهمها بحسب ثقافته وانتمائه ويبيّن الفرق بين تقاليد الشرقيين وتقاليد الغربيّين حول عادات علاقة الرجل بالمرأة. ثم يروي حادثة جرت معه شخصياً (للتدليل على مدى الحرية أمس وافتقادها اليوم)، يقول: ((في صيف عام 1962، وأنا أكتب هذه الكلمات اليوم بعد ثمانية عشر عاماً من الزمن الذي جرت فيه. 

في ذات يوم من ذلك الصيف في ذلك العام، وفي نحو الساعة الثانية بعد الظهر، رنّ جرس التلفون في منزلي الذي كنت أسكنه، وأنا وزير للإعلام آنذاك. في يومها كان رئيس الجمهورية يقوم بجولة في البلاد، وقد وصل في جولته إلى حلب. تناولت السماعة فإذا بصوت عاملة الهاتف، عاملة لم أكن أعرفها بالطبع، ولا هي سمّت لي نفسها، تقول لي ما يلي: فخامة الرئيس، رئيس الجمهورية، في حلب ويريد رقم تلفونك… هل أعطيه إياه؟ كان رقم هاتفي في دمشق، ولا يزال إلى اليوم، رقماً مكتوماً، بمعنى أني رغبت ألا يسجل في دليل الهاتف. والتعليمات تقتضي في هذه الحالة أن يظل هذا الرقم سرّياً، تمتنع موظفة الاستعلامات عن إعطائه للمستفسر عنه. لهذا، واتّباعاً لتلك التعليمات، رفضت عاملة الهاتف تلك أن تبوح بالرقم لطالبه. طالبه الذي هو رئيس الجمهورية بالذات!.

هي، كما ترونها، واقعة بسيطة. في وقتها، منذ ثمانية عشر عاماً، كان تصرف تلك العاملة المجهولة الهوية طبيعياً في نظرها، وفي نظري أنا. وأحسب أنه كان طبيعياً في نظر ذلك الرئيس، الذي ظل ممسكاً بسماعة هاتفه في منزله في حلب، ينتظر جواب عاملة السنترال على سؤاله الضروري المستعجل، وهو سؤال عرفت بعد ذلك أنه كان مهماً في تلك الفترة الحرجة من حياة البلد. ولكن أصدقائي لا يقبلون اليوم بأن يصدّقوا أن هذه الواقعة وقعت، ويهزون رؤوسهم متشككين. أنتم أيضاً أحسبكم غير مصدقين لوقوع هذه الواقعة. وأعذركم، فأنا نفسي، بعد أن فصلت البيرينيه الزمنية بين يومي هذا وتلك الأيام، أكاد لا أصدّق أن ما جرى آنذاك قد جرى حقاً، وأن عاملة موظفة بسيطة تجد من واجبها ومن حقها وتجد في نفسها القوة على أن تطبّق تعليمات إدارية، منصوص عليها في قرارات أكل الدهر عليها وشرب، وأن تطبقها في معاملتها لأعلى سلطة في الدولة وأكبر رأس فيها)) (ص144-145) 

وبعد أن يحكي أمثلة عن الجرائم التي تحدث في أمريكا وفي العالم الغربي، يسأل الدكتور العجيلي أحد أصدقائه العرب وكان مقيماً في نيوجرسي:

((كيف تطيب لك حياة في مثل هذه البلاد، على كل ما فيه من تقدّم وبسطة عيش، إذا كنت لا تأمن أن تسير وحدك ليلاً في شوارعه أو تترك منزلك بدون حراسة قوى الأمن.. أنت القادم من بلد الناس فيه آمنون)) (ص 153) فيجيبه صديقه المهاجر: ((من الذي يقوم بهذه الأعمال الشائنة والإجرامية؟ الذين يقومون بها هم الأشرار. هم المجرمون الذين تعاديهم الدولة وتلاحقهم الشرطة.. حين تخاف أنت هنا من أمر أو من جماعة أو من إنسان وتستنجد بالسلطة فإنها توفر لك الأمن وترسل إليك عناصرها النشيطة التي ما أن تقبل عليك حتى تحس بالاطمئنان وتستشعر السلامة. 

أما في البلد الذي جئت أنا منه يا عزيزي فالعكس هو الذي يحدث. الناس في وطني هناك طيبون، ليّنو العريكة، ما كنت أخشى منهم شيئاً. خشيتي كانت كلها من الدولة وعناصرها. ما كانت تُقبل عليّ طاقية حمراء أو عمرة عسكرية، أو حتى موظف للبلدية أو مأمور في التموين، إلاّ كان ينقبض صدري وترتجف ركبتاي وانا أحسب ألف حساب للشر المستطير الذي سينالني من هذا القادم المقبل. فلا تسألني إذن كيف يطيب لي العيش في هذه البلاد…)) (ص154). 

ثم يروي العجيلي حادثة جرت معه في دمشق تؤكد كلام صديقه حيث اعترضه شخص يصفه بما يلي:((لم يكن الرجل يرتدي بزة رسمية، ولكن كان واضحاً من عبوس وجهه ومن قَصّة شاربيه أنه ينتمي إلى مؤسسة أخطر بكثير من مؤسسات يرتدي عناصرها البزات الرسمية)) (ص 155). وهنا، تتضح المفارقات التي يقدمها غامزاً بشفافية إلى ما نعانيه، يقدمها حتى بوصفه (مسؤولاً) أو مسؤولاً سابقاً، ليفتح الباب – بعد ذلك – إلى الذين يعانون في وطنه كي يجابهوا الفساد أينما كان وعلى أي شكل جاء.

وفي محاضرة أخرى يقدم نماذج من بطولات قد لا تصدق من حرب تشرين كما في محاضرة (أنموذج رقم 1).

ونعود لنلاحظ مرة أخرى أن كل محاضراته تبدأ بأسلوب قصصي بما في ذلك حديثه عن (يونس بحري) العراقي الذي كان يصدر مجلة العرب في فرنسا، والذي كان يعمل مذيعاً في إذاعة برلين العربية في الحرب العالمية، وهو شخصية متناقضة، يثير الناس للثورة ضد المستعمرين في البلاد العربية، ثم يترك لنفسه العنان في تصرفاته وسلوكه، فهو يؤذّن في جامع باريس للصلوات الخمس ويتولّى الإمامة عند الحاجة، وفي الليل يرأس تخت الموسيقا في الملهى القريب منه ويقلّد الراقصات في الرقص الشرقي.

وفي محاضرة ((حدث في كاتما ندو)) يتحدث عن تكاثر السكان في الغرب وموقفنا نحن العرب منه ليستنتج أن الشرق شرق والغرب غرب، مضمناً حديثه قول الشاعر:

سارت مشرّقة وسرت مغربِّاً    شتان بين مشرّق ومغرّب

ألا يبدو لنا من خلال استعراض سريع لما ورد في (حفنة من الذكريات) أن الإبداع عالم خصب يحتوي مختلف التجارب، والتجارب الجدّية التي تطرح رؤاها وتمتح من معين التراث الشعري والّنثري وهي تؤسس تجلياتها الإبداعية، تحتاج إلى وقفة خاصة للمتمعنين فيها ومراقبة سيرها وهي تحاول تأصيل مُثلها الجمالية التي ما تزال تدور في فلك المتغيرات الجديدة وتحاورها بحثاً عن أفق جديد يتمتع بالأصالة.

من هذه التجارب اللافتة التي تؤسس للأصالة، أدب الطبيب عبد السلام العجيلي. وهو أدب إشكالي لأن صاحبه كاتب متعدد يتنقل بين القصة والرواية والمقالة والمحاضرة والسيرة والشعر. ولأن الدكتور العجيلي برز قاصاً وروائياً، يغدو تناول أدب المقالة والمحاضرة لديه أشد صعوبة من سواها. وتفادياً لهذه الإشكالية، عمدنا إلى إعادة قراءة كتب العجيلي، المختصة بالمحاضرات والمقالات، من منطلق ملاحظة الحالات الإنسانية المكثفة التي تتجلى في إنتاجه، وركزنا بالتحديد على الحالات التي تحمل في طيّاتها بذور العلاقة الشائكة بين ذات المبدع وموضوعية العالم، كي تتعدد لدينا قراءات النص وتتفاوت مستويات التلقي الإيحائي متلمّسين رؤى الكاتب كي نغوصَ في عالمه فنجمع بين فهم (المرسِل) وإدراك مكنونات النص الداخلية التي يرسلها.

لا نريد أن نورّط أنفسنا بمحاكمة نصوص كاتب مبدع وفق معايير كلاسيكية تصب في قوالب جامدة لا يمكنها سبر غور كاتب يؤسس رؤاه بعيداً عن حداثوية دعيّة لا تخرج عن إطار كانتونات تمثّل أصداء المدارس الأدبية الغربية، التي لا تكتفي بالتقليد الأصم وحسب، وإنما تنقاد وراء نقد يكتفي بكتابة المصطلحات الغربية بحروف عربية، زاعماً أنه يؤسس حداثة، وهو في الواقع لا يعرفها.

وهذا ما لا يرضي العجيلي، وقد عبّر عن رفضه الغموض في محاضرته (ضرورة الأنسنة). وهو يرفض الحداثوية المتطرفة، لأنه من الجيل الذي عاصر بدء حركة التحرر العربية وعاش انتصارات القومية العربية وانكسارات الجيل الذي وعى مأساة عام 1948 وامتدت مأساته حتى عام 1990 في حرب الخليج.

عاصر المشروع القومي وعاش انتصارات الخمسينيات والستينيات، ثم عاش مرحلة السبعينيات والثمانينيات.. مرحلة أزمة البترودولار والسيطرة الأمريكية والتصدي الحقيقي لمشروع القومية العربية. فهم الحياة، وعى التسلح بأسلوب سلس لا غموض فيه ولا تكلّف، لبسط تجربته ونقلها إلى الآخرين.

وتستمر رحلته في كتابه (في كل وادٍ عصا) وتحت عنوان (لصوص وظرفاء) تتضح أسفاره وأعماله التي مارسها، من خلال النصوص، لنتعرّف إلى معارفه. حيث يتبادل الحديث مع بعض رفقائه عن بعض ظرفاء اللصوص.

وفي (كوليرا وأشباهها) يتحدث عن أمراض تغزو البلاد، كالكوليرا التي غزت مصر ثم سورية، وينبّه إلى أن التقدم والوعي يجعلان الأوبئة تتراجع. ولكن هناك جراثيم خطرة مثل الصهيونية، والحرب الطائفية، والحروب العقائدية؛ وهي أشد فتكاً وضحاياها أكثر، وتأخذ خيرة الناس الأقوياء، على عكس الأوبئة المَرَضيّة التي تغزو الضعفاء. وكما أن إهمال المرافق العامة يسبب الوباء، كذلك فإن إهمال المواطنين يضعفهم عن مقاومة الغزاة. ويرى أن الصهاينة يزرعون الأوبئة الفتاكة في البلاد، وكذلك يزرعون التفرّق بين الناس كوَباء آخر لابد من مقاومته وإعداد العدة لدحره.

وفي مقالة (قلقي على فرنسا) يتضح الحس الساخر لديه حيث نجده يُرجع سبب قلقه على فرنسا لا إلى مشكلاتها السياسية أو الاقتصادية، وإنما إلى كتاب ألّفه أحد الكتّاب الفرنسيين يتناول فيه فضائح المسؤولين وبخاصة رئيس الجمهورية (فاليري جيسكار ديستان) فيقلق العجيلي على فرنسا لأن المؤلف كتب ما كتب وتجرأ على الرئيس ولم يعاقب ولم تمسّه الأجهزة المخفية بأذى.

ونجد في مقالته (عجباً لقومي) بداية وصفية طويلة تفضي إلى الحديث عن أناس يذهبون إلى حفل لحضور فرقة فلكلورية في بلد عربي من بلد آخر ويلاحظ تشابه العادات والتقاليد في البلدان العربية ويداهمه الأسى حيث يتذكر الصهاينة الذين يتربصون بالأمة العربية.

إن كثيراً من مقالات العجيلي ومحاضراته يتضح فيها استلهام التراث، كما في (عندما بكى الوزير) و(تنكة الوالي)، وهو فضلاً عن إكثاره من الشواهد الشعرية التي تتضح فيها ثقافته الأدبية الواسعة، يُكثر أيضاً من إيراد حتى الحكايات الشّعبيّة التراثية، ونلاحظ في كل كتاباته أن العبرة دائماً موجودة في كل ما يقول. وهو أيضاً يقارب السياسة ويجرؤ فيها على الهمز واللمز فتبدو جرأته ودقة ملاحظته مثل ما ورد في مقالته (فاز المخفّون). يقول: ((النُصُب التي ينحتها الطغاة لأنفسهم وهم في ذروة سلطانهم تخليداً لأمجاد مصطنعة، ولا تلبث أن تتحطم حين يتبدد ذلك السلطان وينكشف زور تلك الأمجاد، هؤلاء تعميهم العزة بالإثم عن أن يدركوا أن النُصُب الجائرة ستحمل إليهم لعنات تزداد وفرة بازدياد مظاهر الفخامة في تلك النصب. وكان الخير أن يقوا أنفسهم تلك اللعنات. إذا لم يكن بالعدل والإنصاف فبالتواضع والتخفف.)) (ص 132-133). فهو يروي قصته ليسخر من هؤلاء المتكبرين ومن المتكبرين في كل مكان.

ومن ذلك ما يقوله لمحدّثه في مقال (الآباء والأبناء) في معرض حديثه عن تغير العادات بتغير الزمان، عدا بعض ما هو ثابت ولا يفيد التذمر منه أو ظنه شيئاً متفرّداً في زماننا، كي لا نموت من الغيظ، يقول: ((أما إذا اشتكيت من حكام زمانك فعليك أن تتعزى بأن الحكام في زمان أعمى المعرة لم يكونوا أصلح سيرة، أو أكثر رشداً. ألم يقل:

مُلّ المُقام فكم أعاشر أمةً أمرت بغير صلاحها أمراؤها)) (ص 150)

فهو لا ينفك يأسف على حال الأمة المتخلف، رافضاً كل من يساهم في تخلفها ورافضاً كل ما يعوقها عن التقدم. ولذلك نجد ماضي الأمة العريق ماثلاً في ذهنه على الدوام.

وإذا ابتعدنا عن قصصه الحافلة بتلك المعاني، نجد لزاماً علينا أن نعرّج على حديث إذاعي طويل أورده في آخر كتبه (محطات في الحياة) يركّز فيه على أمجاد المسلمين في الأندلس، وفي معرض إجابته على سؤال الدكتور بدر الدين عرودكي يبيّن الدافع لكتابته (قصة إشبيلية) و(فارس مدينة القنطرة)، يقول ((الأندلس تثير في قلب كل عربي حنيناً إلى فترة نذكر منها الصور الجميلة والأخبار الموحية بالغلبة والعزة والمنعة والحضارة)). (ص 159)

ويعود إلى ربط الماضي بالحاضر من خلال بطل (قناديل إشبيلية) الذي عاد إلى الأندلس وهو يحمل معه مفاتيح بيت أجداده باحثاً عن الدار التي عاشوا فيها، ويقول العجيلي عن تلك القصة في حواره الذي ورد في (محطات في الحياة): ((هذا شيء كتبته بصورة عفوية ولكنه ينطبق على حاضرنا. كثير من الفلسطينيين خرجوا من بلدانهم وهم يحملون مفاتيح دورهم في حيفا ويافا وأنحاء فلسطين الأخرى بأمل العودة إليها)). (ص 160)

هكذا هي مسيرة الأديب عبد السلام العجيلي، يركّز على موضوعاته فيحمل هموم الإنسان والوطن، ويبث بين سطوره لواعج نفسه وخواطره وذكرياته، وتغلب عليه في هذا كله أساليب القصة بوصفه واحداً من روادها في الوطن العربي. ويتصف أدبه، فيما يتصف، بدقة الملاحظة والتوقف عند تفاصيل دقيقة قد لا ينتبه إليها سواه.

ولا ينفك يستمد مادّته الأولية من التاريخ ليوظّفه بعد ذلك للتعبير عن آرائه في أحداث معاصرة قد لا يستطيع التعبير عنها إلا من خلال اتكائه على التاريخ.

وذلك كله بأسلوب بسيط سهل، لا تكلّف فيه ولا التفاف، وإنما تنساب الأفكار منه وكأنها تتولد لتشد إليه القارئ كي يسير مع قراءاته إلى أبعد مدى.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني