fbpx

جورج حاوي: حضور الغياب

0 268

إن ما يستحضر ذكرى الشهيد جورج حاوي هو الإحساسُ الكبير بالحاجة الماسة إلى دوره وحضوره في هذه المرحلة، وهو المعروف بدرجة عالية من الديناميكية، والقدرة على طرح المبادرات واستنباط الحلول، المتأتية من التحليل الدقيق والفهم العميق للمجتمع اللبناني ومشكلاته الداخلية، وتعالقها مع المصالح الإقليمية والدولية، وبما كان يتحلى به من كاريزما شخصية جعلت منه ومن الحزب الشيوعي اللبناني رقماً صعباً في معادلة الصراع اللبناني، ولم يكن اغتياله الآثم إلا تعبيراً عن أهمية هذا الدور وضرورة شطبه من قبل أعداء لبنان وقضاياه الوطنية، في مرحلة بالغة الحساسية والدقة من تاريخ لبنان المعاصر.

أقول ذلك انطلاقاً من حالة الضعف التي تتجلى في نشاط الحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب العلمانية الأخرى بشكل عام في هذه المرحلة، الأمر الذي يجعل قضية الشعب اللبناني كرة بين أيدي وأرجل أعدائه من الزعماء الطائفيين يتقاذفونها فيما بينهم دون خوف أو وجل من أن تفلت من براثنهم، وذلك رغم هول الكارثة التي حدثت في تفجير المرفأ، والتي أودت بحياة المئات من الشعب اللبناني، وأدت إلى جرح الآلاف، وتشريد مئات الآلاف منه، ورتبت على اقتصاده خسائر مادية بمليارات الدولارات، ولم يكن على المراقب انتظار هذه الكارثة حتى يلحظ حالة الضعف هذه، فقد مضى حوالى عشرة أشهر على انطلاق انتفاضة الشعب اللبناني في أكتوبر الماضي، ولم تستطع هذه الأحزاب إلى الآن تشكيل أدنى شكل من أشكال التحالف الوطني العريض الذي يعبر عن مطالب هذه الانتفاضة، ويقود حركتها ونشاطها بحيث تصبح قطباً سياسياً وازناً قادراً على استقطاب المزيد من الفئات الشعبية المترددة، والتي لاتزال تحت تأثير أحزابها الطائفية وزعمائها الطائفيين من جهة، وتفرض نفسها على القوى الإقليمية والدولية من جهة ثانية.

لقد كشفت المظاهرات والتحركات التي حدثت بعد الانفجار المريع في المرفأ محدودية الحراك الشعبي اللاطائفي، وعجزه عن تحقيق أيّ من الشعارات التي طرحها ولاسيما ما يتعلق منها بالشعار الشهير: (كلن يعني كلن)، بما يعنيه من كنس صيغة المحاصصة الطائفية، وإفساح المجال لولادة لبنان الوطن العزيز السيد المستقل، رغم انكشاف درجة التعفن التي وصلت إليها هذه الصيغة، وهذا ما عبر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون باستحياء ومواربة أثناء زيارته الأخيرة، حين أشار إلى ضرورة قيام عقد جديد دون أن يحدد طبيعة هذا العقد وسماته، والتي لا يمكن أن تكون إلا نقيضاً لصيغة المحاصصة الطائفية، وذلك إذا أريد له أن يكون جديداً بكل ما للكلمة من معنى.

لقد أوصل تغوُّل الطائفة الشيعية ممثلةً بحزب الله على الحياة السياسية اللبنانية صيغة المحاصصة الطائفية إلى طريق مسدود، بحيث وجدت الطبقة السياسية اللبنانية وحلفاؤها الدوليون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا القبول بحزب الله ودوره وتغوله على القرار السياسي اللبناني، وإما نسف صيغة المحاصصة إياها، والعمل على بناء الدولة العلمانية التي يتساوى فيها اللبنانيون جميعاً أمام القانون في الحقوق والواجبات، الأمر الذي يعني تخلي هذه الطبقة الفاسدة عن كل ما تتمتع به من امتيازات ومصالح؛ إذ لم يعد ممكناً مواجهة حزب الله بقوى ذات طابع طائفي، وأي مواجهة من هذا النوع سوف تزيده قوة وتماسكاً، وتزيد حالة الالتفاف الشعبي الشيعي حوله، وتدفع بالبلاد إلى أتون حرب طائفية ستبدو الحرب الأهلية اللبنانية السابقة بويلاتها وخسائرها مجرد بروفة صغيرة مقارنة بها.

لقد استفادت الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان من صعود الشيعية السياسية ممثلة بحركة أمل أولاً ثم حزب الله تالياً، من خلال ضخ دماء جديدة في صيغة المحاصصة الطائفية، بعد أن أوصلت الحركة الوطنية اللبنانية ونضالاتها هذه الصيغة إلى حالة من الإفلاس التام، وطرحت على الشعب اللبناني مهمة نسف هذه الصيغة، وبناء لبنان الوطني الديموقراطي العلماني، فجاءت التنظيمات الطائفية الشيعية كطوق نجاة لهذه الصيغة، وليتم من خلالها الإجهاز على الحركة الوطنية ونضالاتها، وهاهي هذه الطبقة تجد نفسها أمام معضلة تغوُّل هذه التظيمات على الدولة وقرارها من جهة، وارتهانها للقوى الإقليمية الداعمة لها ممثلة بنظام الملالي في طهران من جهة ثانية.

ومن المعلوم أن الطائفة والوطن تشكلان كيانين نقيضين، ينتفي كل منهما بحضور الآخر، ويضعف بقوته، ويقوى بضعفه، وما صيغة التعايش التي تتكرر كثيراً في الأدبيات السياسية اللبنانية، والتي يراد بها التعايش بين الطوائف لكنها في الحقيقة تعني التعايش بين هذين الكيانين بالضبط، الطائفة والوطن، هذا التعايش المستحيل بالضبط لأن  التناقض بين هذين الكيانين هو تناقض رئيسي، تناحري، وجود أو لاوجود، وقد كانت هذه الصيغة من التعايش تلفيقية بامتياز الغرض منها تغطية وحجب هذا التناقض، وهي لصالح الطائفة وعلى حساب الوطن دوماً، وذلك عندما جعلت زعماء الطوائف الذين لا تتحقق مصالحهم إلا من خلال طوائفهم، أوصياء على الوطن ومقدراته، لذلك كان شغلهم الشاغل هو نزح وتجريف خيرات الوطن وموارده لصالحهم الشخصي أولاً ولمصلحة طوائفهم بالدرجة الثانية، من هنا وبناء على ما تقدم نستطيع الاستنتاج بأن الطوائف اليوم في ذروة قوتها بما أن الوطن على حافة الانهيار على الأصعدة كافة، وهذا ما عكسته محدودية الحراك الشعبي بعد تفجير المرفأ، وذلك رغم الضخ الإعلامي الهائل الذي رافقه، إذ لو أشار أي زعيم طائفي لطائفته بالنزول إلى الشارع لأغرق الحراك الحالي وأنهاه، ولعل هذا ما يفسر لجوء الحراك إلى قليل من الشغب لكي يغطي على ضعفه ومحدوديته.

والواقع أن الطائفية ليست علاقة سياسية وحسب، بل هي علاقة سياسية اقتصادية اجتماعية ونفسية في آن معاً، غايتها ربط أبناء الطائفة بطائفتهم وزعيمهم ربطاً لا فكاك منه، ليصبح الزعيم الطائفي الأب الراعي والزعيم الحامي لأفراد الطائفة، وخاصة في ظل تقاعس الدولة عن تقديم الحد الأدنى من الأمان والكرامة لمواطنيها، مادام هؤلاء الزعماء أوصياء وقيمين على الدولة ومقدراتها وشؤونها، وإذا كان الأمر كذلك يحق للمراقب أن يتساءل حول جدوى بقاء لبنان ككيان، وعدم تحوله إلى كانتونات طائفية ناجزة ومنفصلة؟ وهو تساؤل مشروع في رأيي، وأعتقد أن ذلك مرتبط بعوامل معقدة تتعلق بموقع لبنان الجيو سياسي والتنافس الإقليمي والدولي للحصول على موطئ قدم ضمن مساحته الصغيرة، وهذا ما تدركه الطبقة السياسية اللبنانية وتلعب عليه بحذاقة من أجل ابتزاز هذه الأطراف، وما زيارة ماكرون الأخيرة وتصريحاته بأن فرنسا والغرب عموماً لن يتخلوا عن لبنان إلا مصداقاً لهذه الحقيقة.

إن بقاء لبنان بوضعه الحالي يوفر مجالاً للمنافسة على حصة كل طرف، أما التحول إلى كانتونات فسيرسم حدوداً واضحة لكل طرف من الطبقة السياسية الطائفية، عدا عن أن هذا التحول إلى كانتونات يحتاج إلى توافق إقليمي ودولي على هكذا تقسيم، والذي يبدو متعذراً في الوقت الحالي على الأقل، ولكن لو تم فإنه سيفقد هذه الطبقة السياسية أهم أوراق قوتها، وأهم مصادر تمويلها.

وبناء على ما تقدم نستطيع الاستنتاج بأن صيغة المحاصصة الطائفية التي تأسس عليها الكيان اللبناني، والتي يراد تعميمها على باقي بلدان المشرق العربي، إنما هي الوصفة الناجزة لمنع قيام وطن حقيقي، ومصادرة المستقبل الذي ينشده أبناء هذا المنطقة، والذي لم أجد أبلغ تعبيراً عنه من هذا المقطع من قصيدة للشاعر الراحل محمود درويش :

إنّ طفلي الذي يتقلّى على جمر ذاكرتي عقّني 

كلما جئته ببيان عن المرتجى مزقه

يطالب أن تقتلوا أمّه

إذ يرى حبل سرّتها مشنقة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني