الاعتقال جريمة تحتاج الى إثبات
خلف الأبواب المغلقة والجدران المتشققة قصص يلفها الحزن وتكفنها الدموع إنها زوجة المعتقل أو المغيّب قسراً، المختبئة من نظرة المجتمع التي تلاحقها، وتقوم بمراقبتها ومراقبة تحركاتها وخطواتها كلّها، وتلك الهواجس التي تقضّ مضجعها وتبقيها حبيسة زاوية الاتهام، فضلاً عن الظّروف الاقتصاديّة السيئة التي تعيشها وأسرتها، إلّا أنّ وقع الأزمة الاقتصاديّة كان أكبر بسبب غياب المعيل الرّئيسيّ، وغالباً ما يصعب على أهل المعتقل تحمّل نفقة زوجته وأولاده، وكذلك هو الحال بالنّسبة لأهل الزّوجة، لتجد نفسها مضطرّةً إلى العمل لتعيل أولادها وتزيل المسؤوليّة، جزئيّاً، عن أهلها وأهل زوجها.
وتواجه العديدات منهن أوضاعاً قانونية واجتماعية، واقتصادية صعبة، سيما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بسبب، وجود فراغ قانونيٍ ناشئٍ عن عدم الاعتراف بالوثائق التي تصدرها الجهات القانونية والشرعية في تلك المناطق، ما يؤدي لتركهن معلقات دون سند قانوني يمكن الركون إليه لتسوية أوضاعهن.
مع انطلاقة الثورة السورية مطلع عام2011 كان التوءم بدر وبتول أطفالاً في المهد حيث خطف جنود النظام والدهما من مكان عمله وبدأت رحلة البحث عن والد بدر وبتول لكن المعلومات التي كانت لديهم لم تكن كافية لإيصالهم إلى مكانه بالإضافة الى أن النظام كان ينكر وجود والد بدر لديهم. حاولت امتنان مراراً معرفة مصير زوجها المختفي لكن القدر لم يتدخل هذه المرة ويعيد الفرحة إلى قلب امتنان.
مضى عام على اعتقال زوج امتنان واختفاء أخباره تماماً ما دفعها إلى الرحيل مع أسرتها إلى تركيا، وحملت معها طفليها الصغيرين وأحلامها بأن يلحق بها زوجها. وصلت امتنان إلى مخيم تل أبيض على الحدود السورية التركية، ومكثت مع عائلتها، قريبة من أسرة زوجها علّها تتقصّى أخباره من القادمين الجدد. في كل يوم كانت تسأل عن القادمين حديثاً إلى المخيم وتذهب لتسألهم لعلهم يعرفون خبراً عن زوجها أو سمعوا شيئاً عن المعتقلين، ولكنها كانت تعود خائبة حزينة.
تقول امتنان: في كل يوم كنت أجلس مع أطفالي أحدثهم عن والدهم وكم كان ينتظرهم، وكم أحبهم عندما كانوا صغاراً وكم حملهم على كتفيه، رغم أن الذكريات كانت قليلة، وبسيطة بسبب عمله الذي كان يتطلب بقاءه خارج البيت لأيام لكنه كان سعيداً بقدوم بدر وبتول بعد سنوات كثيرة. ومضت الأيام مسرعة تجري أمام امتنان وأطفالها وكأن المسافة بدأت تكبر بينها وبين زوجها.
عاشت امتنان في مخيم تل أبيض تنتظر زوجها، وكبر بدر وبتول وهم ينتظرون قدوم والدهم ويحلمون به، وهو يحضنهم ويقبلهم ويرفعهم بين ذراعيه كما كان يفعل وهم صغار ولكن لازالت الأقدار تعاكس امتنان فقد صدر أمر بإلغاء مخيم (سليمان شاه – أكجقلا) وهنا كان العذاب الذي عانت منه أم بدر حيث أجبرت على استئجار بيت في أورفة، والبحث عن مساعدات تعيلها على تربية بدر وبتول فاستخرجت بطاقة المساعدات (الهلال الاحمر).
ومازالت امتنان تصارع في معترك الحياة التي ما تلبث أن تبتسم لها لحظة حتى تريها من المصائب ما تعجز الرجال عن تحمله فبعد أن استقرت في بيتها، وبدأت الأمور تعود إلى عهدها، جاءت أزمة كورونا (كوفيد 19) وبدأت قصة الحظر، والحجر الصحي فخاف شقيق (أبو بدر) على أولاد أخيه فطلب من امتنان أن تنقل الأولاد إلى تل أبيض حيث يقيم أهل زوجها، وما كان من امتنان الى أن استجابت لطلب العم وتأخذ أسرتها إلى تل أبيض.
وبسبب الحظر وعدم قدرتها على العودة إلى أورفة تأخرت بدفع أجرة البيت في ذلك الشهر ما دفع بصاحبه إلى فتح باب الشقة والاستيلاء على كل محتوياته، وبيعها في سوق المواد المستعملة، لتعود امتنان فجأة، وتجد أنها لم تعد تملك شيئاً لا منزلاً ولا أغراضاً.
ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فقد تم تأجير المنزل وفقدت امتنان سكنها لتعود الى أطفالها وهي تتجرع مرارة الحياة وقسوتها أو تحدث نفسها والدموع على وجنتيها ماذا فعلت لهذه الدنيا حتى تبادلني بكل هذه القسوة والألم.
لكن الحياة مازالت مصرة على رؤية دموع امتنان ومرارة العذاب في وجهها فقد ذهبت للحصول على المساعدة المخصصة لها من الهلال الأحمر لتتفاجأ بإيقاف المعونة. كادت امتنان تفقد عقلها فلم يعد لديها بيت والمساعدة توقفت لماذا كل هذا ما هو الذنب الذي ارتكبته.
ذهب امتنان الى الهلال الأحمر لمراجعتهم ومعرفة سبب توقف المساعدة فطلب منها الموظف إبراز عنوانها الجديد وتحديث المعلومات المتعلقة بأسرتها بعد تغير عنوان البيت. وعندما سألها الموظف أين زوجك وقفت امتنان لحظات وكأنها تستعيد شريط ذكرياتها إلى قبل عشر سنوات، فناداها الموظف أين زوجك، مكتوب لدي أنك متزوجة. فقالت له:
نعم متزوجة ولكن زوجي في سوريا، ولم تستطع امتنان أن تقول أنها بدون زوج حالياً. فقال لها الموظف:
وماذا يفعل في سوريا لم لم يأت مع عائلته؟ فقالت له:
كنا نتمنى لو كان الأمر متعلق به، لما تركنا لحظة واحدة ولكنه معتقل فقال لها:
لماذا فقالت:
لا أعرف فقال لها الموظف:
كيف لا تعرفين قالت:
لقد أخذوه منذ عشر سنوات ولا أعرف عنه شيئاً ولا أعرف مكانه أو لأي سبب أخذوه. فقال لها الموظف:
كيف لا تعرفين مكانه، وأنت تقولين إنه معتقل؟ هنا صرخت به قلت لك:
لا أعرف لقد أخذوه من مكان عمله ولم نكن معه ولا أعرف أين هو الآن، لقد بحثت عنه لسنوات كثيرة، حتى أهله بحثوا عنه، ولكن دون جدوى..
هنا انفجرت امتنان بالبكاء، ولكن دموعها لم تؤثر بالموظف الذي ظنها تفتعل هذا كي تحصل على بطاقة المساعدة. فطلب منها أن تحضر إثباتاً يفيد أن زوجها معتقل.
هنا خرجت امتنان من مبنى الهلال الأحمر، وكانت تحسّ كأن السماء قد أطبقت على الأرض، وهي بينهما لم تعد تدرك ما يجري حولها، وكأن أصواتاً تأتي من بعيد فالجميع أصبح ضدها ولا تعرف لماذا.
بمساعدة بعض الأصدقاء حصلت امتنان على موعد في العيادة القانونية في أورفة وقابلت الموظف السوري الذي قام بدوره بالترجمة للمحامي التركي، الذي قال لها:
إن القانون التركي ينظر للموضوع من زاوية قانونية فقط، وليس إنسانية، فكلمة معتقل في القانون التركي تعني أن الشخص قد تبين جرمه أو جنايته وعرف مكانه وبالتالي أوضحت ملابسات القضية كافة، وهنا يمكن لأهله وذويه زيارته أو توكيل محام.
ولكن الوضع مختلف بالنسبة لكم في سوريا وخاصة في السنوات العشر الأخيرة، وهي فترة الثورة فزوجك يعتبر مختف قسرياً أو مفقود، وهذا مختلف تماماً عن المعتقل، فالنظام أخفى هؤلاء الأشخاص، وهو ينكر وجودهم لديه حتى لا يثبت عليه ارتكاب جرائم حرب ضد الشعب السوري.
ولكن لماذا قلت لهم في دائرة الهجرة عند استصدار وثيقة الحماية المؤقتة إنك متزوجة؟ فقالت له امتنان:
وماذا تريدني أن اقول لهم؟ فأنا متزوجة ولدي أمل كبير بعودته إلى أطفاله وعائلته ولا أستطيع أن أنكر ذلك. فقال لها المحامي:
ولكن هذا الأمر يحتاج إلى أوراق ثبوتية، ولكن يمكنك استصدار وثيقة وفاة له.. هنا صرخت امتنان:
لا لا يمكن ذلك (أبو بدر) لا يزال بخير وسيعود إلينا. إن قلبي لا يطاوعني على قول ذلك أو حتى مجرد التفكير به، وماذا سأقول لأطفالي وأهل زوجي؟ سيقولون لي أنت تريدين قتله من أجل الحصول على مساعدات مالية بسيطة إنه شيء مخز ومزعج حقاً ولا أستطيع فعل هذا الأمر أبداً حتى لو لم أحصل على أي مساعدة، صحيح أن المساعدات تقدم للأرامل أكثر ولديهن جمعيات مخصصة لكفالة أطفالهم ولكن لا يمكنني فعل ذلك؟
وتخرج امتنان وقد بللت الدموع وجنتيها وغطاءها الأسود الذي غطى وجهها.
وحتى اليوم لم تحصل امتنان على أية مساعدة من أي جمعية وفقدت حقها في مساعدة الهلال الأحمر بسبب عدم إثبات اعتقال زوجها.
من ناحية أخرى لا توجد إحصائيات دقيقة يمكن الاعتماد عليها حول عدد «زوجات المعتقلين والمفقودين»، وتقتصر الإحصائيات على القوائم التي تعدها المجالس المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ويستعان بها من أجل توزيع الدعم لهؤلاء النساء.
تتعدد الآراء الفقهية حول جواز طلب التفريق لعلة غياب الزوج في الشريعة الإسلامية، وفي مناطق سيطرة النظام، يحق للزوجة طلب التفريق بعد مرور سنة وفقاً للمادة 109 من قانون الأحوال الشخصية السوري. أما في المناطق الخارجة عن سيطرته، فمن الإجراءات المتبعة لطلب التفريق وجود شاهدين، وشرطهم العدول، والمقصود بالعدول أن يكونا على اطلاع ومعرفة أن الزوج معتقل لمدة سنة، وفقاً لما يؤكده القاضي وسام قسوم الذي عمل سابقاً في الهيئة الإسلامية في بنش.
في هذا الصدد يبقى الأمر مرهوناً بإرادة الزوجة فقط وعلى المجتمع تقبل رغبتها، سواء كانت هذه الرغبة انتظارَ زوجها نتيجة العاطفة والحب الذي يربطها به، وعدم تقبلها آخر يحلّ محلّه، أو الزواج من رجل آخر بعد ثبوت وفاة الزوج الأول أو التيقن من عدم عودته. لكن المجتمع مازال يقيد حرية المرأة في الاختيار، ويجبرها على انتظار زوجها مهما طال الزمن، كنوع من إعلان وفائها له، حتى لو غاب سنوات عدة، ما يؤدي إلى حرمانها من حقها الشرعي في الزواج مرة أخرى، وبقائها أسيرة الخوف من الأقاويل التي قد تصيب سمعتها.
تعاني «زوجات المعتقلين والمفقودين» من الجمود القانوني، سواء في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري أو التابعة لها، وغالباً ما تصطدم الزوجة بعقبات نتيجة غياب الزوج وعدم وجود أي منفذ قانوني يبيح لها حق الإقرار بسفر أولادها دون موافقة الأب المعتقل، والحصول على الوثائق الرسمية كإذن السفر وقيد السجل المدني، يعتبر أمر في غاية الصعوبة ناهيك بطلب استخراج وثيقة «الوصاية» على أولادها لاستكمال إجراءات السفر، ومن المعلوم أنه في حال تمت محاكمة المعتقل لدى النظام السوري في محاكم الإرهاب، يكفي أن تطلب المحكمة ورقة تثبت ذلك لدى الأفرع الأمنية، ولكن الطامة الكبرى هي وضع المعتقلين الذين مازال مصيرهم مجهولاً ولم يتم تحويلهم إلى محكمة الإرهاب ويجب على الزوجة أثناء محاولتها الحصول على أوراق ثبوتية أخذ الحيطة وعدم ذكر كلمة «معتقل» حتى لا تدخل بمتاهات أمنية تودي الى عدم حصولها على ورقة «الوصاية»، ويتطلب أيضاً حضور أحد الشهود ليؤكد أنه مفقود.
أما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، فإنه حتى لو حصلت زوجة المعتقل أو المفقود على أوراق لتيسير أمورها كطلب التفريق أو حصر الإرث أو الوصاية على أولادها، فإن هذه الوثائق تبقى دون أي قيمة قانونية بسبب الفراغ القانوني الذي تعاني منه المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري.
على الرغم من الجهد المبذول، سواء من قبل بعض المجالس المحلية أو المحاكم الشرعية، للعمل على ملء هذا الفراغ، لكن حتى اليوم لم يشكل المجتمع المحلي الضغط الكافي لإيجاد حل يعمل على تسوية وضع «زوجات المعتقلين والمفقودين» من الناحية القانونية.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد أكدت أن 13 ألفًا و983 شخصاً قُتِلوا جراء التَّعذيب في سجون النظام السوري منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، مشيرةً إلى أن الآلاف لايزالون قيد الاعتقال التعسفي في سجونه التي تفتقر لأدنى المقومات الإنسانية بالإضافة إلى أساليب التعذيب التي تصنف الأسوأ عالمياً.
ووفقاً لتقرير الشبكة فإنَّ ما لا يقل عن 148191 شخصاً لا يزالون قيد الاعتقال/الاحتجاز أو الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا منذ آذار/2011 حتى آب/2020، بينهم 130758 لدى النظام السوري، بينهم 3584 طفلاً، و7990 سيدة، فيما لا يزال ما لا يقل عن 8648 بينهم 319 طفلاً و225 سيدة مختفون لدى تنظيم داعش، و2125 بينهم 19 طفلاً و33 سيدة لا يزالون قيد الاحتجاز أو الاختفاء القسري لدى هيئة تحرير الشام.
وبحسب التقرير فإنَّ ما لا يقل عن 3262 شخصاً بينهم 324 طفلاً و786 سيدة لا يزالون قيد الاحتجاز أو الاختفاء القسري لدى المعارضة المسلحة/الجيش الوطني، إضافة إلى وجود مالا يقل عن 3398 شخصاً بينهم 620 طفل و169 سيدة لا يزالون قيد الاحتجاز أو الاختفاء القسري على يد قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية.
نحتاج إلى إقامة حملات توعية ومناصرة تقوم بها منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية تستهدف المجتمعات المحلية حول حقوق «زوجات المعتقلين والمغيبين قسرياً» وتغيير نظرة المجتمع لهن، وإيضاح متطلباتهن وواجبات المجتمع تجاههن. أما الناحية الثانية، فهي البدء بتنفيذ برامج تنموية تستهدف هذه الفئة من المجتمع، كي تتم حمايتها وضمان حصولها على حقوقها المشروعة المنصوص عليها في القوانين المدنية.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”