fbpx

إعلام الثورة نحو منعطفات الحقيقة

0 456

بدأت الثورة السورية عام 2011 مترافقة مع بزوغ شمس الربيع العربي المطالبة بإسقاط الأنظمة العربية في المنطقة، حيث لم يكن للسوريين نصيب في أن تُوثق انتفاضتهم إلا بعد مرور وقت طويل نسبياً مقارنةً بالتغطية والاهتمام الذي نالته انتفاضات باقي الشعوب الثائرة، الأمر الذي دفع بالكثير ممن حملوا على عاتقهم واجب المساهمة في إيصال صوتهم الى العالم، توثيق ما يجري من خلال عدسات جوالاتهم الصغيرة.
إعلام النظام الكاذب
بالمقابل عمل إعلام النظام السوري وما زال طوال السنوات العشر الماضية على تغييب الحقيقة وتزويرها بكل ما أتيح له من طُرق مستخدماً كل وسائل الغش والخداع والكذب وتلفيق التهم، وهذه كانت أساليبه التي اعتاد عليها منذ تولى الأسد الأب السلطة في سورية ناهيك بأسلوبه الذي يعتمد على تفريق الصفوف وزرع الفتنة بين الطوائف.
كما لعب إعلام النظام دوراً كبيراً في التضليل، والتحريف، والتشويه، فاعتبر الثورة مؤامرة دولية للإسلام المتطرف والإرهابي، وقام بعمليات اغتيال لعدد كبير من الصحافيين الذين جهروا بأصوات معارضة، أو العاملين في قنوات أجنبية تغطي الأحداث السورية.
وأوضحت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن النظام السوري عمد بشكل ممنهج إلى محاربة النشاط الإعلامي، وارتكب في سبيل ذلك مئات الانتهاكات بحق الصحفيين والمواطنين الصحفيين من عمليات قتل واعتقال وتعذيب، في محاولة لإخفاء “ما يتعرض له المجتمع السوري من انتهاكات لحقوق الإنسان، وطمس الجرائم المرتكبة بحق المواطنين”.
ظاهرة المواطن الصحفي في المرحلة السلمية
لكن لم تلبث الأمور أن خرجت عن سيطرته حين بدأ أفراد متفرقون من العامة بوهب أنفسهم كصحفيين ومراسلين دون أدنى خبرة بالعمل الصحفي أو استخدام الكاميرا والوقوف أمام الشاشة ليكونوا النواة الأولية لإعلام سوري حر يكون صوتاً للسوريين ويحمل على عاتقه توجيه الناس وتحفيزه وإيصال صوت الثورة وصورتها.
وقد لاقت ظاهرة “المواطن الصحفي” أو “المراسل الصحفي” خلال هذه الفترة نجاحاً كبيراً في نقل واقع الاحتجاجات السلمية إعلامياً رغم اعتمادها على أناس هواة لا يملكون من أساسيات مهنة الإعلام من قبل شيء، ويعود الفضل لبعضهم في توثيق أصغر وأخطر الأحداث معرضين أنفسهم وعائلاتهم إلى خطر محدق حتى دفع بعضهم أرواحهم ثمناً له.
صحف ومنابر إعلامية عرفت بالإعلام البديل
فيما بعد، تحولت هذه الحالة إلى شكل منظم أكثر، فظهر مصطلح “الإعلام البديل”، بعد أن أخذ النشاط الإعلامي الذي قام به شباب هواة باتجاه المؤسسات، فوُلدت منصات إعلامية جديدة، فتحت مجالاً واسعاً للرأي الآخر، حيث باتت أمام المتلقي السوري منابر متعددة للخبر والمعلومة، بعد أن كان لأكثر من خمسين عاماً أمام وسائل معدودة، جميعها تنطق برواية واحدة، أو موحدة قصداً، مصدرها وزارة إعلام النظام والمؤسسات الأمنية والحزبية التي تمر بها قبل خروجها إلى وسائل الإعلام أو عبرها.
كما تم إصدار صحف ومنابر إعلامية عرفت بـ “الإعلام البديل”، الذي نشط إلى جانب الثورة السورية. وقامت على دعم المنظمات الدولية المعنية بالشأن الإعلامي والحقوقي. سعت للاعتماد على الصحافيين المحترفين، سواء الذين غادروا البلاد أو تركوا المؤسسات الإعلامية لدى النظام وبقوا في مناطق سيطرته للاستفادة من تغطيتهم للأحداث هناك، لكنها أيضاً استقطبت عدداً من الناشطين الإعلاميين الذين أفرزتهم الثورة، بعد أن درّبتهم وأهّلتهم ليقدموا مادة جيدة ومستوفية للمعايير الصحافية. لكن هذه الصحف توقفت بسبب تراجع الدعم والتمويل لها.
لكن الأعوام العشرة الماضية، شهدت أيضاً تقلّبات داخل هذا المجال، أي “الإعلام البديل” الذي أنتجته الثورة السورية. فبعد أن كان محط استقطاب واهتمام ودعم دولي، تراجع هذا الدعم بشكل كبير، فتوقفت الكثير من المؤسسات وتراجع دور غيرها وأداؤها. وتلك التي صمدت حتى اليوم، تحاول الهروب من شبح توقف ما تبقى لها من دعم شحيح يساعدها على إكمال مسيرتها.
إن “الإعلام البديل في الثورة، وفي البدايات تحديداً، ألصق بنفسه أنه إعلام غير موضوعي، فالكثير من الوكالات والصحف والمواقع التي تأسست على أيادي ناشطين لم يكن لديهم أي خبرة إعلامية سابقاً، تعاملت مع تقديم المعلومة على مبدأ (الردح) بينها وبين الطرف الآخر (إعلام النظام)، فغابت الموضوعية، ما جعل المصداقية أيضاً لديها محل شكوك”.
دعم المؤسسات الإعلامية من خلال المنظمات الدولية
إن “دخول دعم المنظمات الدولية إلى تلك المؤسسات، شكّل عامل ضبط لسياستها فيما بعد، من خلال نقطتين: الأولى أن الكثير من الناشطين الذين تقدموا للاستفادة من دعم تلك المنظمات خضعوا لتدريبات مكثفة، أما النقطة الثانية، فهي الضوابط التي وضعتها تلك المنظمات مقابل تقديم الدعم للوسائل الإعلامية السورية، ما جعل الإعلام البديل في سورية، في مرحلة متقدمة من عمر الثورة، أكثر مصداقية وموضوعية والتزاماً أخلاقياً من إعلام النظام. فالمنظمات الدولية الداعمة كانت ترفض تقديم أي دعم لمؤسسة تصدّر خطاب كراهية أو تخالف مواثيق الشرف الإعلامي على سبيل المثال، وفيما بعد أصبح الوضع أفضل في هذه الناحية”.
تغير المعطيات الدولية
مع تقدم عمر الثورة، وتغير المعطيات السياسية الدولية المحيطة بها، قلّ الاهتمام الدولي بالقضية السورية، ما انعكس على واقع الإعلام البديل الذي رافق الثورة السورية منذ بدايتها، لا سيما لجهة الدعم والاهتمام والمساندة”.
ودفع الإعلام السوري البديل الدخول إلى مرحلةً جديدة كلياً بعد ظهور القنوات التليفزيونية الكبيرة وتشكيلها مصدراً واسعاً يضم كل أشكال المحتوى الإعلامي، الذي لم يأخذ تحقيقه وقتاً طويلاً حقيقةً، بل كان سريعاً مقارنةً بما يتطلبه الأمر عادةً من وقت، فتشكلت العديد من القنوات التلفزيونية من بينها قناة أورينت التي كانت من أولى الشاشات السورية التي لازمت السوريين طوال سنوات ثورتهم المجيدة والتي أعلنت مؤخراً إغلاقها.
ثم ما لبثت هذه الرقعة أن اتسعت لاحقاً لتضم وسائل إعلامية أخرى من راديو وصحف ومواقع إلكترونية ومنصات في مواقع التواصل الاجتماعي بأشكال وأسماء لا حصر لها.
هذه الوسائل الإعلامية المختلفة تلقت الدعم من منظمات دولية، ولم تتلق أي دعم من المجلس الوطني السابق، أو حتى من الائتلاف الوطني، الذي لم يستطع حتى اليوم أن ينشئ وسيلة إعلامية تعبر عن صوت الثورة السورية بعد عشر سنوات من انطلاقها.
دور وسائل الإعلام العربية والعالمية
ولا يمكن إغفال الدور الذي قدمته وسائل الإعلام العربية والعالمية، بفتح تواصل جديد ومن نوع خاص مع الحراك والقائمين عليه والناشطين بشقيه الإعلامي والسياسي، فكانت منبراً لهم للتعبير عن آرائهم، وعرض الرواية المحظور عرضها في إعلام النظام. كما أن تلك الوسائل استقطبت وأهّلت الكثير من الناشطين الإعلاميين، لا سيما الهواة، فدرّبتهم وصقلت قدراتهم وفسحت لهم المجال ليكونوا مراسلين لها، ما نقلهم من الهواية إلى الاحتراف.
“بالمجمل، دخلت سورية في عالم الإعلام من أوسع أبوابه. ولحظة عودة سورية إلى حياة حرة ديمقراطية، سيكون إعلامها سلطة رابعة بحق. والفضل في ذلك لثورة الحرية والكرامة”.
استندت الثورة على أربع ركائز أساسية، هي: السياسة والعسكرة والنشاط الإنساني/الإغاثي والإعلام. والركيزة الأخيرة هنا، كانت أولى الركائز من حيث الترتيبات التي اعتمدت عليها الثورة لتصدير صورتها للخارج، ونقل الرواية من الضفة الأخرى المغايرة لما كان يصدره إعلام النظام للداخل والخارج، ما شكّل حالة داخل الثورة السورية، كان الإعلام سمتها الأبرز خلال انطلاق الثورة.
الإعلام كفعل مقاومة مستمرة
يقع على الإعلام والصحافة الدور الأكبر في توجيه هذا الجيل وتقديمه وقضيته إلى العالم والعمل على تغيير الرأي العام تجاه القضية السورية وبسبب الدور الذي يلعبه الإعلام كسلطة لا يمكن ردعها ولا يمكن توقّع مدى التأثير الذي يحدثه، وبالإضافة إلى أنه اليوم قائد للوعي يوجه نحو زاوية ما ويزيح النظر عن أخرى، يخفي واقعاً ويمكّن زيفاً، إلا أن هذا لا ينفي كونه سيفاً ذا حدين يتسبب في واحد من أكبر تحديات إعلام الثورة السورية ألا وهو أن الإعلام السوري الحر اليوم ليس حراً بالمعنى الكامل.
من ناحية أخرى تقبل الثورة السورية اليوم على منعطفات خطيرة، أولها خطر المحو وتشويه الماضي ودفنه كواحدة من أهداف النظام التي تتلخص في محاولات استرجاع علاقاته مع دول الجوار والعالم، وهنا تزيد المسؤولية الفردية والجمعية على جيل الثورة في المقاومة والثبات على ما بدؤوا به.
فيما يقع على الإعلام والصحافة الدور الأكبر في توجيه هذا الجيل وتقديمه وقضيته إلى العالم والعمل على تغيير الرأي العام تجاه القضية السورية، ويمكن تحقق هذه المقاومة في العديد من المناهج أبرزها العمل على إنشاء مؤسسات إعلامية ذات بنية سليمة تركز على الهوية السورية الشاملة لجميع السوريين بعيداً عن التقسيمات التي تؤدي إلى التفرقة وتراشق التهم، إلى جانب التذكير المستمر بحق العودة للاجئين المطرودين من أراضيهم الذين يسعى النظام لاستبدالهم بطوائف وجنسيات أخرى (الإيرانية) ما يمثل تغييراً ديموغرافياً كبيراً، والعمل على زرع روح الدفاع عن هذه الحقوق واستعادتها بحملات توعوية إعلامية لضمان استعادة ما تم سلبه، والخيارات عديدة سواء في حقل الإعلام أم غيره ويمكن تحققها بالعمل الجماعي المنظم ووضع خطط محكمة بعيدة المدى.
تقع على عاتق الإعلام السوري الثوري مهمةً ليست بالسهلة، وربما لا يقوم بها كل إعلام عادي لأن المرحلة التي تعيشها سوريا والشعب السوري ليست بالعادية ولا يوجد في التاريخ مثالاً يُحتذى به، ورغم هذا ما زال لدينا الكثير لفعله من خلال التركيز على الشرائح الثلاثة المختلفة التي ينقسم إليها الشعب السوري حالياً وهي: السوريون الموجودون داخل سوريا سواء كانوا من المعارضين لنظام الأسد أم حتى من المؤيدين، والسوريون المقيمون خارج سوريا، والعالم بشكل كامل لتوجيه كل واحد على حدة. وهي مسؤولية تحملها المؤسسات الإعلامية ومنظمات التدريب وحتى الإعلاميين أنفسهم بشكل متساوٍ.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني