حول أزمة الإسلام
تصدر ترند “إلا رسول الله” و”الإسلام في أزمة” مواقع التواصل العربية والعالمية، في أعقاب تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون والجريمة المؤسفة في فرنسا بحق المدرس الفرنسي، حتى طغت على غالبية الأخبار والأحداث العربية والعالمية، وفق طابع انفعالي غالباً وخاو من أي مضمون قيمي وثقافي ونقدي لمعالجة الإشكالية القديمة/الجديدة في ذات الأوان. وهو ما سوف أحاول معالجته هنا، عبر تسليط الضوء على أبرز سمات الأزمة الحقيقية بعيداً عن تهويل ماكرون والعصبية الإسلامية أيضاً.
وكي لا أطيل الحديث كثيراً أود في البداية الإشارة إلى تعدد مظاهر التعصب الديني عالمياً وعربياً على وجه الخصوص إسلامياً ومسيحياً وفي جميع التصنيفات الدينية الفرعية منها والرئيسية. لذا يسهل على ماكرون وعلى مروجي فكرة الأزمة الإسلامية، العثور على مئات الأمثلة العنصرية البغيضة عبر صفحات التواصل الاجتماعي المحسوبة على المسلمين، ومن خلال العديد من الممارسات العنصرية الميدانية المشينة، كقطع رأس المعلم الفرنسي مؤخراً. في المقابل يسهل أيضاً على نقيضهم العثور على مئات النماذج والأمثلة العنصرية غير الإسلامية العربية والعالمية على حد سواء التي يحظى بعضها بمساحة إعلامية وازنة ولاسيما في الإعلام اللبناني، مثل وزير خارجية لبنان الأسبق جبران باسيل وثلة من الإعلاميين والسياسيين المحسوبين على تياره السياسي الطائفي طبعاً. وهو ما يتجلى عالمياً أيضاً من خلال تصاعد القوى اليمينية العنصرية ذات الجوهر الديني المتعصب، ولنا بخطاب الرئيسين الأمريكي والبرازيلي خير مثال على ذلك. لكن وعلى الرغم من بروز هذه الأزمة عالمياً أيضاً إلا أني لن أتعمق الآن بمظاهرها وحيثياتها بغرض تكريس جل المقالة على جذرها العربي.
حيث أعتقد أن هناك تعمد فرنسي وعالمي يهدفان إلى تشويش رؤيتنا حول الأزمة لإعاقة مسار فهمها وبالتالي حلها مستقبلاً، فمن مصلحة دول العالم المتحضر إدامة أزمات المنطقة لأطول فترة ممكنة. وهو ما يتجلى في عملهم على خلق عناوين مضللة لها، كأزمة الإسلام. لذا لا أعتقد أننا بحاجة إلى إيراد أمثلة عنصرية غربية أو عربية بغض النظر عن تصنيف الشخص العنصري دينياً وطائفياً، فجميع هذه المظاهر بما فيها خطاب ماكرون نفسه، هي تعبير واضح عن عمق أزمة الوعي والقيم ونظم العدالة عالمياً وعربياً طبعاً. كما أعتقد أن البحث في أزمة الإسلام أو الدين عموماً عربياً دون جدوى، كونها انعكاس لأزمة مجتمعية ناتجة عن انهيار المنظومة التعليمية العربية والاقتصادية والقضائية، تؤدي إلى سيادة التخلف والظلم والفقر في غالبية دول المنطقة. وهو ما يدفع نحو مزيد من الانغلاق والتعصب الديني بحكم تعلق المظلومين بآمال العدالة السماوية في الحياة الأخرى، كشكل من أشكال التصبير الضرورية لتحمل قسوة الحياة وفداحة المظالم التي يعيشونها، أو التي نعيشها جميعاً.
فمن هو الشخص ذو الثقافة المسلمة أو المسيحية أو اليهودية أو البوذية الصرفة؟ وعليه هل يصح مساواة ثقافة وقيم ماكرون أو جاك شيراك بقيم وأخلاق ووعي جبران باسيل مثلاً، أو مهاتير محمد؛ أردوغان مع بورقيبة، وكذلك في مساواة نتنياهو مع إيلان بابيه وفق اعتبارات دينية زائفة. فالأديان جزء من المكونات الثقافية لأي مجتمع كان، نتيجة تجلياتها الاجتماعية اليومية في اللباس والمأكل والعادات والأهم في المناسبات الاحتفالية والسرديات التربوية التقليدية الدينية الرائجة، في حين يندر تأثيرها نتيجة الاطلاع على تفاصيلها. حيث يفترض بها أن تتفاعل مع بقية العناصر المكونة لثقافة المجتمع والأفراد، كالقومية والوطنية والتراث الثقافي التاريخي والإنتاج الثقافي المحلي والإقليمي والعالمي، فضلاً عن قيم وعادات العصر الحالي. لذا عندما تضمحل جميع هذه العوامل لصالح سيادة مكون وحيد منها كالمكون الديني مثلاً، نكون أمام أزمة مركبة وخطيرة مجتمعياً لا دينياً.
حيث نشهد اليوم تصاعد الخطاب الديني على مستوى العالم والمنطقة عموماً والعنصري منه خصوصاً، بحثاً عن عدالة مفقودة، بل ومسحوقة بفعل قوى الهيمنة والنهب والاستبداد المسيطرة عالمياً ومحلياً بدعم خارجي فج وواضح أولاً، ونتيجة ضمور الخطاب والفعل الثقافي والسياسي الحضاري والحقوقي الساعي للحرية والعدالة ثانياً. لذا تحولت الأديان لدى شرائح اجتماعية كبيرة من مصدر يعزز القيم الإنسانية العليا وناظم للعلاقة الروحية مع الله، إلى أمل المظلومين شبه الوحيد بالخلاص الفردي والجماعي، وعليه بات التشكيك بها أو مجرد الاستهزاء بها أو التقليل من دورها وأهميتها تحطيماً لأمل المظلومين بالعدالة كلياً، وكأنه فعل متعمد ومقصود يسعى إلى تأبيد الظلم وقوى النهب والاستغلال والاستبداد. ما يدفع بعضهم إلى أقصى درجات الفعل ورد الفعل قسوة ووحشية، نظراً لوحشية الفعل الأصلي في مخيلتهم، كونه يهدم آخر قلاع الأمل بغد أفضل وفق المتاح راهناً للمظلومين، ولو كان مجرد وهم متخيل. أي أن الإرهاب فعل فردي حتى لو تكرر في شريحة اجتماعية مفترضة كشريحة المسلمين؛ المسيحيين؛ اليهود، وبالتالي فإن تكراره وتصاعده ضمن كتلة اجتماعية محددة وصغيرة ذات ارتباط جغرافي واجتماعي واضح وجلي، هي تعبير عن عمق أزمة منظومة القيم السائدة في الدولة المحددة، فالأديان باقية ولن تتغير، في حين أن استخدامنا لها قد يتغير عندما ننجح في بناء منظومة العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أوطاننا.
وعليه يحق لماكرون كممثل للقوى المهيمنة فرنسيا دفع الفرنسيين أو جزء منهم إلى صراع مجتمعي داخلي بين متدين وغير متدين أو مسلم وغير مسلم لاستنزاف الكتلة الاجتماعية الحاضنة للحركات الاحتجاجية المطلبية الفرنسية، ما سوف يحول أو على أقل يعرقل إمكانية تطور هذه الحركات وتأطرها سياسياً وتنظيمياً، كي لا تهدد مصالح القوى المسيطرة. كما يحق له العمل على حماية وكلاء القوى المسيطرة عالمياً في منطقتنا العربية ومجمل دول العالم الثالث، عبر تزكية الصراعات الدينية وتهميش التحركات السياسية والاجتماعية الثورية، كي لا تطيح مستقبلاً بعملاء الإمبريالية العالمية ما قد يهدد مصالحها، وهو ما يفسر دعم وتحالف ماكرون الذي يدعي العلمانية مع أشد أعداء العلمانية والإنسانية من الطائفيين مسلمين كانوا أم مسيحيين، في لبنان وسورية والعراق وإيران.
في حين أجد في ردود أفعال بعض المثقفين والمحللين العرب، ولاسيما المعارضين منهم لمنظومة النهب والاستغلال والاستبداد ما يثير الحيرة والاستغراب، كونها تنساق خلف ألاعيب المنظومة العالمية والمحلية المسيطرة، بطريقة شعبوية أحياناً تساير المزاج العام بل وتزيد من تحريضه، أو بطريقة فوقية تغالي في جلد الذات فردياً وجماعياً، وكأنه إعلان براءة مسبق من تهمة الانتماء لهذا المجتمع. بدلاً من العمل على إثارة أزماتنا الحقيقية التي تعيق مسار التغيير المطلوب شعبياً، وعبر فضح غايات ماكرون الخادعة عبر استغلال حرية التعبير التي يتبجح بها في نقد ممارسات الحكومة الفرنسية الإجرامية تاريخياً وراهنا لاسيما في منطقة المغرب العربي والقارة الإفريقية عموماً، وكذلك في نقد وتعرية الممارسات الصهيونية العنصرية والإجرامية التي يرعاها النظام الفرنسي ويحميها، فهنا يكشف ماكرون والنظام الفرنسي عن طبيعته الحقيقية وعن ثانوية القيم الديمقراطية وحرية التعبير والعلمانية في كل ما يتعلق بمصالح الطبقة المسيطرة وحمايتها إعلامياً وقضائياً من الإدانة والتجريم.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”